أبواب اللغة العربية

أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ حافظٌ يتغنّى بجمال العربية

أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ حافظٌ يتغنّى بجمال العربية

تغنّى شاعر النيل حافظ إبراهيم (1872م – 1932م) باللغة العربية وجمالها وقدراتها وتجددها، ولام على أبناء العربية ذلك الإهمال للغتهم الأصيلة الحيّة، ودعاهم إلى العمل على التمسك بها وإحيائها وتعليمها وإعادتها لسابق عهدها قبل أن تندثر آثارها ويضيع مجدها إلى غير رجعة.

واللغة العربية عند حافظ مثل مَلِكة عزيزة شامخة تلوم نفسها عند هجرة الأشياع والأتباع، وتتّهم حصاتها بأنها غدت ترمي فلم تعد تصيب، وتنادي قومها فلا نصير ولا مجيب، فتقول:

رَجَعتُ لِنَفسي فَاِتَّهَمتُ حَصاتي … وَنادَيتُ قَومي فَاِحتَسَبتُ حَياتي

وتنعى على أولادها ذلك الإهمال والهجران، والادّعاء بأنها قد بَلِيَت آثارها، وتوقفت عن النموّ والتطور ومعاصرة الأحداث، فتقول بمرارة:

رَمَوني بِعُقمٍ في الشَبابِ وَلَيتَني … عَقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقَولِ عُداتي

وَلَدتُ وَلَمّا لَم أَجِد لِعَرائِسي … رِجالاً وَأَكفاءً وَأَدتُ بَناتي

وتنفي العربيّة تلك التهمة في عزّة وكبرياء، فهي لغة القرآن، كتاب الأمة ومعجزتها الخالدة المتجددة:

وَسِعتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً … وَما ضِقتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ

فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ … وَتَنسيقِ أَسماءٍ لِمُختَرَعاتِ

أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ … فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي

ثم تنشد في بنيها الأساة (العلاج والدواء) وعودة محاسنها وفضائلها، رغم أنهم سبب نكبتها وبلائها:

فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِني … وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَساتي

فَلا تَكِلوني لِلزَمانِ فَإِنَّني … أَخافُ عَلَيكُم أَن تَحينَ وَفاتي

وتنادي اللغة بنيها بالعودة إلى رشدهم وترك هذا التغريب وتفضيل لغة الغرب عليها، وتنعى السادة الكرام الذين حفظوها، وتتمنى أن ينبعثوا من تحت التراب ليرووا للأجيال الجديدة فضلها:

أَرى لِرِجالِ الغَربِ عِزّاً وَمَنعَةً … وَكَم عَزَّ أَقوامٌ بِعِزِّ لُغاتِ

أَتَوا أَهلَهُم بِالمُعجِزاتِ تَفَنُّناً … فَيا لَيتَكُم تَأتونَ بِالكَلِماتِ

أَيُطرِبُكُم مِن جانِبِ الغَربِ ناعِبٌ … يُنادي بِوَأدي في رَبيعِ حَياتي

وَلَو تَزجُرونَ الطَيرَ يَوماً عَلِمتُمُ … بِما تَحتَهُ مِن عَثرَةٍ وَشَتاتِ

سَقى اللَهُ في بَطنِ الجَزيرَةِ أَعظُماً … يَعِزُّ عَلَيها أَن تَلينَ قَناتي

حَفِظنَ وِدادي في البِلى وَحَفِظتُهُ … لَهُنَّ بِقَلبٍ دائِمِ الحَسَراتِ

وَفاخَرتُ أَهلَ الغَربِ وَالشَرقُ مُطرِقٌ … حَياءً بِتِلكَ الأَعظُمِ النَخِراتِ

ثم تعيب اللغة على أبنائها بقلب باكٍ تلك الخطايا التي تُقترف بحقها كل يوم على صفحات الجرائد، وألسنة المحاضرين والخطباء:

أَرى كُلَّ يَومٍ بِالجَرائِدِ مَزلَقاً … مِنَ القَبرِ يُدنيني بِغَيرِ أَناةِ

وَأَسمَعُ لِلكُتّابِ في مِصرَ ضَجَّةً … فَأَعلَمُ أَنَّ الصائِحينَ نُعاتي

أَيَهجُرُني قَومي عَفا اللَهُ عَنهُمُ … إِلى لُغَةٍ لَم تَتَّصِلِ بِرُواةِ

سَرَت لوثَةُ الإِفرِنجِ فيها كَما سَرى … لُعابُ الأَفاعي في مَسيلِ فُراتِ

فَجاءَت كَثَوبٍ ضَمَّ سَبعينَ رُقعَةً … مُشَكَّلَةَ الأَلوانِ مُختَلِفاتِ

ثم تنادي القائمين على حصون اللغة، وتدعو الكتّاب أن يصونوا مقامها ويحفظوا حقها حتى لا تنمحي آثارها:

إِلى مَعشَرِ الكُتّابِ وَالجَمعُ حافِلٌ … بَسَطتُ رَجائي بَعدَ بَسطِ شَكاتي

فَإِمّا حَياةٌ تَبعَثُ المَيتَ في البِلى … وَتُنبِتُ في تِلكَ الرُموسِ رُفاتي

وَإِمّا مَماتٌ لا قِيامَةَ بَعدَهُ … مَماتٌ لَعَمري لَم يُقَس بِمَماتِ