أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني (400 – 471ه) هو مؤسس علم البلاغة، وقد كان كتاباه (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة) هما الأساس الذي قام عليه صرح علوم البلاغة، فالبلاغيون له تبع، وكتاباتهم تستلهم ما دوّن الجرجاني.
وقد كان الرجل شغوفا بالقرآن الكريم، فجاء كتاباه رحلة غوصٍ في بحر القرآن لاستخراج الكنوز واللآليء. ولا غرو أن يكون علم البلاغة مستندا إلى القرآن العظيم في جلّ مباحثه.
ومن المباحث الهامة التي سطّرها عبد القاهر بقلمه مبحث (التشبيه والتمثيل)، وها هو يحدّثنا:
أقسام التشبيه
اعلم أن الشيئين إذا شُبّه أحدهما بالآخر كان ذلك على ضربين: أحدهما، أن يكون من جهة أمرٍ بيّنٍ لا يحتاج إلى تأوّل، والآخر أن يكون الشبه محصّلاً بضرب من التأوّل.
فمثال الأول: تشبيهُ الشيّ بالشيء من جهة الصُّورة والشكل، أو من جهة اللّون، كتشبيه الخدود بالورد، والشَعر بالليل، والوجه بالنهار، وتشبيه سِقْط النار بعين الديك، وما جرى في هذا الطريق أو جمع الصُّورة واللون معاً، كتشبيه الثُّريّا بعنقود الكَرْم المنوَّر، والنرجس بمَدَاهن دُرٍّ حشُوهن عقيق، وكذلك التشبيه من جهة الهيئة نحو: أنه مستوٍ منتصبٌ مديدٌ، كتشبيه قامة الرَّجل بالرمح، والقَدِّ اللطيفِ بالغصن. (والتشبيه هنا حسيّ قريب يدرَك وجه الشبه فيه من أقصر طريق).
يقول عبد القاهر عن هذا الضرب الذي لا يحتاج إلى تأوّل وإعمال فكر لمعرفة وجه الشبه: فالشبه في هذا كلّه بَيّنٌ لا يجري فيه التأوُّل، ولا يُفتقَر إليه في تحصيله، وأيُّ تأوُّل يجري في مشابهة الخدّ للورد في الحمرة، وأنت تراها ها هنا كما تراها هناك؟ وكذلك تعلم الشَّجاعة في الأسد كما تعلمها في الرجل.
ثم يذكر الضرب الثاني المحتاج إلى الـتأويل فيقول: ومثالُ الثاني، وهو الشبه الذي يَحْصُل بضرب من التأوُّل، كقولك: هذه حُجّةٌ كالشمس في الظهور، وقد شبّهت الحجةَ بالشمس من جهة ظهورها، إلا أنك تعلمَ أن هذا التشبيه لا يتمّ لكَ إلا بتأوُّل، وذلك أن تقول: حقيقة ظُهور الشمس أنْ لا يكون دونها حجابٌ ونحوُه، ولذلك يظهر الشيءُ لك إذا لم يكن بينك وبينه حجابٌ، ولا يظهر لك إذا كنت من وراء حجاب، ثم تقول: إن الشُبهة نظير الحجاب فيما يُدرَك بالعقول، لأنها تمنع القلب رؤيةَ ما هي شُبهة فيه، كما يمنع الحجاب العين أن ترى ما هو من ورائه، ولذلك تُوصف الشُبهة بأنها اعترضت دون الذي يروم القلبُ إدراكه، ويَصْرف فكرَه للوصول إليه من صحّةِ حكمِ أو فساده، فإذا ارتفعت الشبهة وحصل العلم بمعنى الكلام الذي هو الحجّة على صحّة ما ادُّعي من الحكم قيل: هذا ظاهرٌ كالشمس، أي ليس ها هنا مانعٌ عن العلم به، لا للتوقف والشكّ فيه مَسَاغٌ، وأنَّ المنكرَ له إمَّا مدخولٌ في عقله أو جاحدٌ مُباهتٌ، ومُسرف في العناد، كما أن الشمس الطالعة لا يَشكُّ فيها ذو بصرٍ، ولا ينكرها إلاّ مَنْ لا عذر له في إنكاره، فقد احتجتَ في تحصيل الشبه الذي أَثبته بين الحجّة والشمس إلى مثل هذا التأوّل كما ترى.
وتأويل التشبيه نفسه قد يكون قريبا، وقد يكون بعيدا يحتاج إلى جهد وإعمال نظر.
ومثال التأويل القريب كما يقول عبد القاهر: ألفاظه كالماء في السلاسة، وكالنسيم في الرٍّقة، وكالعسل في الحلاوة. يريدون أن اللفظ لا يستغلِق ولا يشتبه معناه ولا يصعُب الوُقوف عليه، وليس هو بغريب وَحْشيّ يُستكرَه، لكونه غيرَ مألوف، أو ليس في حروفه تكريرٌ وتنافرٌ يُكَدُّ اللسانُ من أجلهما، فصارت لذلك كالماء الذي يسوغُ في الحلق، والنسيم يسري في البدن، ويتخلَّل المسالك اللطيفة منه، ويُهدي إلى القلب رَوْحاً، ويُوجد في الصدر انشراحاً، ويُفيد النفس نشاطاً، وكالعسل الذي يَلَذُّ طعمه، وتَهِشُّ النفس له، ويميل الطبع إليه، ويُحَبُّ ورودُه عليه، فهذا كله تأوّلٌ لكنه قريب المأخذ يشبه التشبيه غير المؤوّل (القريب) إلى حد كبير.
ويضرب عبد القاهر مثالاً للتأويل البعيد بقول كَعْبٍ الأشقريّ، وقد أوفده المهَلَّب على الحجّاج، فوصف له بنيه وذكر مكانهم من الفضل والبأس، فسأله في آخر القصّة قال: فكيف كان بنو المهلب فيهم؟ قال: كانوا حُماة السَرْح نهاراً، فإذا أليَلُوا ففرسان البَيَات، قال: فأيُّهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلْقة المفرغة لا يُدرَى أين طَرَفاها.
فهذا المثال لا يفهمه حقَّ فَهْمه إلا من له ذهن ونَظَرٌ يرتفع به عن طبقة العامّة؛ وهو أعلى في الحاجة إلى التأويل من تشبيه الحجّة بالشمس. ويثني الجرجاني على ذلك المثال بقوله: قوله: هم كالحلقة، لا تراه إلا في الآداب والحِكَم المأثورة عن الفضلاء وذوِي العقول الكاملة.
وخلاصة القول أن التشبيه بالمحسوسات لا يحتاج إلى تأويل، والتشبيه بالمعقولات منه ما يحتاج إلى تأويل قريب ليحصل على وجه الشبه، ومنها ما يلزم لتأويلة قريحة متوقّدة وفطنة عالية.