جار الله الزمخشري هو مفسّر وعالم لغة من الطراز الرفيع، وهو نسيج وحده في فكره وتأليفه وأسلوبه، ولا نبالغ إذا قلنا أن: من لم يقرأ الزمخشري لم يتذوّق حلاوة العربية.
ومن فرائده ما قاله في تفسير قول الله تعالى في سورة غافر عن الملائكة (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) غافر: 7، بأن الملائكة لا يرون الله سبحانه، وإلا لما كان مدحهم بأنهم (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ).
جاء في تفسير الرازي (27 / 488) في تفسير الآية 7 من سورة غافر: مما حكى الله عن هؤلاء الملائكة هو قوله تعالى: (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) فإن قيل: فأي فائدة في قوله: (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) فإن الاشتغال بالتسبيح والتحميد لا يمكن إلا وقد سبق الإيمان بالله؟ قلنا: الفائدة فيه ما ذكره صاحب (الكشاف) ، وقد أحسن فيه جدا فقال: إن المقصود منه، التنبيه على أن الله تعالى لو كان حاضراً بالعرش!! لكان حملة العرش والحافّون حول العرش يشاهدونه ويعاينونه، ولما كان إيمانهم بوجود الله موجباً للمدح والثناء؛ لأن الإقرار بوجود شيء حاضر مشاهد معاين لا يوجب المدح والثناء، ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس وكونها مضيئة لا يوجب المدح والثناء، فلما ذكر الله تعالى إيمانهم بالله على سبيل الثناء والمدح والتعظيم، علم أنهم آمنوا به بدليل أنهم ما شاهدوه حاضرا جالسا هناك، ورحم الله صاحب (الكشاف) فلو لم يحصل في كتابه إلا هذه النكتة لكفاه فخراً وشرفاً. انتهى كلام الرازي. ونحن نقول إن الكشاف ملئ بمثل هذه الفرائد البديعة. وهيّا بنا إلى سيرة هذا الإمام العظيم..
اسمه ونشأته: هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي، ولدَ في قرية زَمخشَر بخوارزم عام 467 ه/ 1074مـ، وإليها يرجع لقب الزمخشري،
وهو علَّامة فارسيٌّ ومن أئمة المعتزلة،
درسَ في بخارى وسمرقند ثمَّ انتقل إلى بغداد ليصحبَ كبار العلماء، ثمَّ انتقل بعد ذلك إلى مكة المكرمة واشتهر هناك بلقب (جار الله) لمجاورته البيت الحرام،
قال عنه السمعاني: برعَ في الآداب وصنَّف التصانيف، وردَ العراق وخراسان، ما دخلَ بلدًا إلا اجتمعوا عليه، وتتلمذوا له، وكان علَّامة نسَّابة، وعاد إلى خوارزم بعد ذلك حيث توفي في عاصمتها الجرجانية عام 538 هـ/ 1143م،
وكان الزمخشري مقطوع الرجل فترة من حياته، وكان طوال وقته ورحلاته متكئاً على خشبة، إلا أن ذلك لم يمنعه من الطلب وقصدان أئمة العلم في مختلف البلدان.
اتصف الإمام الزمخشري بالعديد من الصفات الحسنة، فإلى جانب علمه الغزير، وتعدد مواهبه، وبراعته الكبيرة في عدة مجالات مختلفة من العلوم، فقد كان تقيًا ورعًا، شديد التواضع، حسن المعشر، كما كان غزير التأليف، إذ عُرف عنه براعته الشديدة في النثر والإنشاء، حيث اتصف أسلوبه الأدبي بجزالة الألفاظ، وتأنق العبارات، بالإضافة إلى موهبته الشعرية في نظم القصائد.
مؤلفاته وثناء العلماء عليه: درة التاج في مؤلفاته هو كتاب (الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل)، والذي ألّف خلال إقامته في مكة المكرمة، وهو يُعد من أوائل كتب التفسير التي تناولت موضوع بلاغة القرآن الكريم، وإعجازه اللغوي، وعلى الرغم من أن الزمخشري كان معتزليّا، وكان شديد الدفاع عن آرائه، إلا أنه قد حظي بمنزلة عالية عند علماء السنة، وأئمة اللغة، كما مدحه العديد من كبار العلماء أمثال ابن خلدون، حيث كان يطلب من تلامذته تعلمه ودراسته، وابن خلكان، فقد وصف هذا الكتاب بأنه (لم يؤلف قبله مثله)، وأبو حيان الأندلسي، والذي أثنى عليه في كتابه (البحر المحيط)
وله مؤلّفات فريدة في أبوابها مثل معجمه الفذ (أساس البلاغة)، وكتبه اللغوية الأخرى مثل (المفصل في صنعة الإعراب) و(الفائق في غريب الحديث) و(القسطاس في العروض) و(الأنموذج في النحو) وغيرها.
يقول ياقوت الحموي عن الزمخشري في معجم الأدباء: كان إمامًا في التفسير، وفي النحو، واللغة، الأدب، واسع العلم، كبير الفضل، متفننًا في علوم شتى.
ويقول ابن خلكان: كان إمام عصره من غير مدافع، تشدّ إليه الرحال في فنونه.
رحم الله أبا القاسم وأجزل عطاءه، وأعاننا على استخراج الكنوز من خزانته لينتفع بها الدارسون.