نزل القرآن الكريم في قوم أهل فصاحة، فتحدّاهم في عين ما نبغوا فيه، وجاء نظمه على صورة لا يتأتّى لهم الإتيان بها رغم أنها من جنس الحروف والكلمات التي بين أيديهم.
وقد تناول العديد من البلاغيين هذا النوع من البلاغة بالتحليل والتفسير، فهالهم ما وجدوا من دلائل الإعجاز البلاغي. ومن أهم النظريات في هذا الميدان نظرية (النّظْم القرآني) التي قال بها شيخ البلاغيين عبد القاهر الجرجاني.
رأى عبد القاهر أن عملية النظم إنما هي في ترتيب الألفاظ في النطق على حسب ترتيب المعاني في النفس. ويضرب لذلك مثالا فيقول: هل تشك إذا فكرت في قوله – تعالى -: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ هود: 44، فتجلى لك منها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع، أنك لم تجدْ ما وجدت من المزيّة الظاهرة، والفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا، إلى أن تستقريَها إلى آخرها، وأن الفضل تَناتَجَ ما بينها وحصل من مجموعها؟
إذا شككت فتأمل: هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت، لأدت من الفصاحة ما تؤديه، وهي في مكانها من الآية؟
قل: ﴿ابْلَعِي﴾ واعتبرها وحدها، من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك اعتبر سائر ما يليها.
وكيف بالشك في ذلك؟ ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض، ثم أمرت، ثم كان النداء بـ: “يا” دون “أي”، نحو: يا أيتها الأرض، ثم أُمرت، ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال: ابلعي الماء، ثم أن أُتبع نداءُ الأرض وأمرُها بما هو من شأنها، نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل: ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾ فجاء الفعل مبنيًّا للمفعول، وتلك الصيغة تدل على أنه لم يَغِضْ إلا بأمر آمر، وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله – تعالى -: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور، وهو ﴿اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ﴾، ثم إظهار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة، والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة “قِيلَ” في الخاتمة بـ: “قِيلَ” في الفاتحة.
أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها – تعلقًا باللفظ من حيث هو صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق، أم كل ذلك لما بَيْنَ معاني الألفاظ من الاتساق العجيب؟
ويحدد الشيخ محمد عبد الله دراز خصائص البيان القرآني، أو ما يسميه (القشرة السطحية للقرآن) وإعجازه في اللفظ قبل المعنى، فيقول: أوّلُ ما يُلاقيكَ ويستدعي انتباهك من أسلوب القرآن الكريم خاصّية تأليفِه الصوتي في شكله وجوهره.
إنه الجمال التوقيعيّ في توزيع حركاته وسكناته، ومدّاته وغُنَّاته: دع القارئ المجوّد يقرأ القرآن، يرتله حق ترتيله، نازلًا بنفسه على هوى القرآن، وليس نازلًا بالقرآن على هوى نفسه. ثم انتبذ منه مكانًا قصيًّا لا تسمع فيه جرسَ حروفه، ولكن تسمع حركاتها وسكناتها، ومدّاتها وغنّاتها، واتصالاتها وسكتاتها، ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية، وقد جُرّدت تجريدًا وأرسلت ساذجة في الهواء. فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب عجيب لا تجده في كلام آخر لو جُرّد هذا التجريد، وجُوّد هذا التجويد.
فإذا ما اقتربت بأذنِك قليلًا قليلًا، فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة، فاجأتك منه لذة أخرى في نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها؛ هذا ينقر وذاك يصفر، وثالث يخمس ورابع يجهر، وآخر ينزلق عليه النفَس، وآخر يحتبس عنده النفس. وهلم جرا، فترى الجمال اللغوي ماثلًا أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة لا كركرة ولا ثرثرة، ولا رخاوة ولا معاظلة، ولا تناكر ولا تنافر. وهكذا ترى كلامًا ليس بالحضري الفاتر، ولا بالبدوي الخشن، بل تراه وقد امتزجت فيه جزالة البادية وفخامتها برقة الحاضرة وسلاستها، وقدر فيها الأمر تقديرًا لا يبغي بعضهما على بعض. فإذا مزيج منهما كأنما هو عصارة اللغتين وسلالتهما، أو كأنما هو نقطة الاتصال بين القبائل، عندها تلتقي أذواقهم، وعليها تأتلف قلوبهم.
ومن هذه الخصوصية والتي قبلها (النظم الصوتي) تتألف القشرة السطحية للجمال القرآني. وليس الشأن في هذا الغلاف إلا كشأن الأصداف مما تحويه من اللآلئ النفيسة، فإنه جلت قدرته قد أجرى سنته في نظام هذا العالم أن يغشي جلائل أسراره بأستار لا تخلو من متعة وجمال، ليكون ذلك من عوامل حفظها وبقائها بتنافس المتنافسين فيها وحرصهم عليها. انظر كيف جعل باعثة الغذاء ورابطة المحبة قوامًا لبقاء الإنسان فردًا وجماعة. فكذلك لما سبقت كلمته أن يصون علينا نفائس العلوم التي أودعها هذا الكتاب الكريم قضت حكمته أن يختار لها صوانًا يحببها إلى الناس بعذوبته، ويغريهم عليها بطلاوته، ويكون بمنزلة (الحداء) يستحث النفوس على السير إليها. ويهون عليها وعثاء السفر في طلب كمالها. لا جرم اصطفى لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك القالب العذب الجميل. ومن أجل ذلك سيبقى صوت القرآن أبدًا في أفواه الناس وآذانهم ما دامت فيهم حاسة تذوق وحاسة تسمع، وإن لم يكن لأكثرهم قلوب يفقهون بها حقيقة سره، وينفذون بها إلى بعيد غوره {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر: ٩.