مولده نشأته: لا تعرف كتب التراجم لهذا العالم اللغوي العظيم غير اسمه واسم أبيه ولقبه، فهو أبو الفتح عثمان بن جني النحوي. وان جِنِّيّ أبوه مملوكا روميا لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي.
كانت ولادة ابن جني بالموصل، ولا نعرف أيّ شيء عن عائلته قبل قدومها إلى الموصل، وفيها قضى طفولته وتلقى دروسه الأولى، وذكرت المصادر التي ترجمت له أنه ولد قبل سنة ثلاثين وثلاثمائة، فلم تحدد سنة مولده. وإذا كانت أغلب المصادر التاريخية على أنه توفي سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وكان آنذاك في السبعين من عمره – على قول ابن قاضي شهبة في طبقات النحاة، والذهبي في تاريخه وفي العبر – فإن ولادته تكون في سنة اثنتين وعشرين أو إحدى وعشرين وثلاثمائة من الهجرة.
تعليمه: أقام ابن جني بعد الموصل ببغداد، ولزم أبا علي الفارسي دهرا، وسافر معه حتى برع وصنف، وظل يدرس العلم إلى أن توفي، وكان له من الولد: علي وعالٍ وعلاء، وكلهم أدباء فضلاء، قد خرّجهم والدهم وحسّن خطوطهم، فهم معدودون في الصحيحي الضبط وحسني الخط، بحسب تعبير ياقوت الحموي في معجم الأدباء.
وأبو الفتح من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف، وصنّف في ذلك كتبا أبرّ بها على المتقدمين وأعجز المتأخرين، ولم يكن في شيء من علومه أكمل منه في التصريف، ولم يتكلم أحد في التصريف أدقّ كلاما منه.
يقول صاحب (مسالك الأبصار) عنه: لم يُرَ مثله في توجيه المعاني، وشدِّ بيوت القصائد الوثيقة المباني، ويقول ابن ماكولا: وكان نحويًّا حاذقًا مجودًا. ويقول الثعالبي في (يتيمَة الدهر): هو القطب في لسان العرب، وإليه انتهَت الرياسَة في الأدب.
وله شعر جيّد، وقد خدم عضد الدولة وابنه كان من كتّاب الانشاء في ديوانهما، وقرأ على المتنبي (ديوانه)، وشرحه، وله مجلد في شرح بيت لعضد الدولة.
كان ابن جنّيّ من عباقرة اللغة وسدنتها البررة، وكان باحثا دائما عن الجديد، ولم يتبع ابن جني في آرائه اللغوية أيًّا من المدرستين السائدتين؛ الكوفة والبصرة، بل اختط لنفسه – مع آخرين – مذهبا سماه شوقي ضيف في أخريات الدهر بـ(مذهب البغداديين).
بين ابن جنّي والمتنبي: وقد روى البديعي في (الصبح المنبي) قصة طريفة عن حبه للمتنبي وسعيه لإقناع شيخه أبي علي الفارسي بالمتنبي، قال: كان أبو علي الفارسي إذ ذاك بشيراز وكان ممر المتنبي إلى دار عضد الدولة على دار أبي علي الفارسي، وكان إذا مر به أبو الطيب يستثقله على قبح زيّه، وما يأخذ به نفسه من الكبرياء، وكان لابن جنّى هوى في أبي الطيب، كثير الإعجاب بشعره، لا يبالي بأحد يذمه أو يحط منه. وكان يسوؤه إطناب أبي علي قي ذمه، واتفق أن قال أبو علي يومًا اذكروا لنا بيتًا من الشعر نبحث فيه، فبدأ ابن جني وأنشد:
حُلْتِ دون المزارِ فاليوم لو زرتِ *** لحال النحولُ دون العِناق
فاستحسنه أبو علي، واستعاده، وقال: لمن هذا البيت؟ فإنه غريب المعنى، فقال ابن جنى: للذي يقول:
أزورهم وسوادُ الليل يشفعُ لي*** وأنثني وبياضُ الصبح يُغرى بي
فقال والله هذا حسن بديع جدًا، فلمن هما؟ قال للذي يقول:
أَمضى إِرادَتَهُ فَسَوفَ لَهُ قَدٌ. وَاِستَقرَبَ الأَقصى فَثَمَّ لَهُ هُنا
فكثر إعجاب أبي علي، واستغرب معناه، وقال لمن هذا؟ فقال ابن جني: للذي يقول:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ***مضرُّ كوضع السيف في موضع الندى
فقال وهذا والله، وقد أطلت يا أبا الفتح، فأخبرنا من القائل؟ قال هو الذي لا يزال الشيخ يستثقله، ويستقبح زيه وفعله، وما علينا من القشور إذا استقام اللب؟ قال أبو علي: أظنك تعني المتنبي؟ قلت نعم. قال والله لقد حببته إليّ.
مؤلّفاته وأسلوبه: ويغلب على مباحِث ابن جني طابَعُ الاستِقصاء والغوص في التفاصيل، والتعمُّق في التحليل، واستِنباط المبادئ والأصول مِن الجزئيات، وهو في هذا يُشبِه ابن الرومي في الشِّعر، وكأنما للجنسِ الرومي الذي يَنتميان إليه أثرٌ في هذا، ومِن مَباحثه التي اهتدى لها، وسَبَق بها، الاشتقاقُ الأكبر، وإن كان قد استمدَّ فكرتَه مِن أستاذه أبي علي، وهو مع حرصه على اتِّباع مَن سبَقه من الأئمة العلماء، وتبجيله لهم – لا يُبالي أن يُخالفهم إذا تهدَّى لرأي لم يقولوا به، واستوى له دليله، واستقرَّت عنده حُجَّتُه.
اشتهرَ ابنُ جني ببلاغة العبارة، وحُسْن تصريف الكلام، والإبانة عن المعاني بأحسن وجوه الأداء، وهو يَسمو في عبارته، ويَبلُغ بها ذِروة الفَصاحة في المسائل العلميَّة الجافَّة، البَعيدة عن الخيال ووجوه التطريَة، وله في عباراته وجوه في استعمال بعض المُفردات يُدوِّنها اللغويون، ويُنوِّهون بها، كما يُدوِّنون ما يَصدُر عن العرب ثقةً بطبيعته العربية، وسجيته اللغوية، على أنه قد تندُّ منه بعض الهنات الكلامية التي لا تَثلم البلاغة، ولا تغضُّ مِن شأوِه، وفَراهة أسلوبه.
ولقد خطّ ابن جنّي في التأليف خطّا مبتكرا، فهو يحدثك في الخصائص عن بنية اللغة وفقهها وأصولها، ويناقش إلهامية اللغة واصطلاحيتها، ويعرض لقضايا اللغة الأصولية كالقياس، والاستحسان، والعلل، والحقيقة والمجاز، والتقديم والتأخير، والأصول والفروع.
وله ما يربو على خمسين مؤلّفا، منها الخصائص، وسر صناعة الإعراب، واللمع، والتصريف، والتلقين في النحو، و إعراب الحماسة، والمحتسب في الشواذ.
يقول الدكتور محمد علي النجار في مقدمته لكتاب (الخصائص)ً: لقد فتح ابن جني في العربية أبوابًا لم يتسنَّ فتحُها لسواه، ووضع أصولاً في الاشتقاق، ومُناسبة الألفاظ للمعاني، وإهمال ما أُهمِل من الألفاظ، وغير ذلك. وكان بذلك إمامًا يَحتاج إلى أتباع يَمضون في سبيله، ويَبنون على بحوثه، وإذًا لنضجت أصولُه، وبلغَت إناها، ولكنَّه لم يُرزق هؤلاء الأتباع.
على أنه أُتيح له لُغويٌّ كبير، أغار على فوائده وبحوثه اللغوية، ذلك هو ابن سِيدَه، علي بن أحمد، المتوفَّى سنة ثمانٍ وخمسين وأربعمائة، وهو كثيرًا ما يُغفِل العزو إليه في كتابه (المحكم)، ويأتي صاحب (لسان العرب) فينقل ما في ابن سيده، ويَنسبه إليه، وهو لابن جني، وهذا بحث يَحتاج إلى استقصاء.
رحم الله عالمنا الجليل.
وأنت مدعوّ أيها القارئ إلى أن تؤدي دورك نحو تراث لغتك العظيمة بالتنقيب عن أسرارها، وتجلية أوجه عظمتها وريادتها.