هل مجازات القرآن تعبّر عن البيئة العربية كتشبيهات الشعراء واستعارات البلغاء أم تتجاوزها إلى خارجها؟؟ هذا الملمح الفريد نبّهنا إليه المفكر الكبير مالك بن نبي رحمه الله، فقال في كتابه (الظاهرة القرآنية):
إن عبقرية لغةٍ ما مرتبطة بما تهبه الأرض لبلاغتها الخاصة؛ فطبيعة المكان والسماء والمناخ والحيوان والنبات، هذه كلها خلّاقة للأفكار والصور التي تعد تراثاً خاصاً بلغة دون أخرى؛ وهكذا تضع الأرض طابعها على أدوات البلاغة التي يستخدمها شعب ما، كيما يعبر عن عبقرية، وبالتالي فإن النقد الذاتي لأي أدب يجب أن يكشف في هذا الأدب إلى حد ما عن علاقته بعناصر التربة التي ولد فيها.
وكذلك فيما يتصل بتحليل الأسلوب القرآني، فإن هذا التحليل يجب أن يكشف عما يربطه بالتربة العربية.
ولعل المزاج هو العنصر البلاغي الفريد الذي يحدد معالم الأسلوب، ويحدد بصورة ما موقعه الجغرافي، فامرؤ القيس عندما وصف فرسه قال بيته الشهور:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً … كَجَلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
فإذا تأملنا ألفاظ هذا المجاز وجدناه يعبر عن صورتين متماثلتين تماماً مقتبستين من حياة الصحراء وإطارها، فقد استخدمت عبقرية الشاعر العظيم – في بلاغة فطرية- عناصر احتواها الوسط الجغرافي، وهي صورة فرس يعدو، وصورة جلمود صخر حطه السيل. فالبيت عربي في جوهره، لأن الوسط الذي يتمثل فيه وسط عربي طبعه بطابعه الخاص.
ولكن المجاز القرآني ليس دائماً ولا غالباً انعكاساً للحياة البدوية في الصحراء. فهو يستمد- على عكس ذلك- عناصره وألفاظ تشبيهاته من بيئات وأجواء ومشاهد جد مختلفة، فالأفكار المتصلة بالنبات كالشجرة وأنواع الرياض تصور لنا طبيعة أرض كثيفة الزرع، طيبة الهواء، أكثر من أن تصور أرض الصحراء القاحلة الرملية. والأنهار التي تخترق المروج الخضر تذكرنا بالأرض الخصبة على ضفاف النيل، أو الفرات، أو نهر الجانج بالهند، أكثر مما تذكرنا بمفازات بلاد العرب. والسحب التي تسوقها الرياح لتحيي الأرض بعد موتها ليست من المشاهد اليومية في سماء بلاد العرب، فإن هذه السماء القارية صافية ملتهبة، حتى كأنها موقد نحاس محمي، عارية عري الصحراء نفسها. وفضلاً عن ذلك فإننا نجد في القرآن صوراً ذهنية كثيرة لا تتصل بسماء الجزيرة ولا بأرضها.
ولنذكر مثالين يدللان على ما نقول: المثال الأول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}النور: 39
ففي هذه الصورة الأخاذة يتجلى سطح الصحراء العربية المنبسط، والخداع الوهمي للسراب. فنحن هنا أمام عناصر مجاز عربي النوع، فأرض الصحراء وسماؤها قد طبعا عليه انعكاسهما، فالظاهرة القرآنية نجدها في بلاغة هذه الآية، حين تستخدم خداع السراب، لتؤكد بما تلقيه من ظلال تبدد الوهم الهائل، لدى إنسان مخدوع، ينكشف في نهاية حياته غضب الله الشديد، في موضوع السراب الكاذب … سراب الحياة.
والمثال الثاني قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} النور: 40
فهذا المجاز يترجم على عكس سابقه عن صورة لا علاقة لها بالوسط الجغرافي للقرآن، بل لا علاقة لها بالمستوى العقلي، أو المعارف البحرية في العصر الجاهلي، وإنما هي في مجموعها منتزعة من بعض البلدان الشمالية التي يلفها الضباب، ولا يمكن المرء أن يتصورها إلا في النواحي كثيفة الضباب. فلو افترضنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في شبابه منظر البحر فلن يعدو الأمر شواطئ البحر الأحمر أو الأبيض. ومع تسليمنا بهذا الفرض فلسنا ندري كيف كان يمكن أن يرى الصورة المظلمة التي صورتها الآية المذكورة؟. وفي الآية فضلاً عن الوصف الخارجي الذي يعرض المجاز المذكور سطر خاص بل سطران: أولهما الإشارة الشفافة إلى تراكب الأمواج. والثاني هو الإشارة إلى الظلمات المتكاثفة في أعماق البحار، وهاتان العبارتان تستلزمان معرفة علمية بالظواهر الخاصة بقاع البحر، وهي معرفة لم تُتحْ للبشرية، إلا بعد معرفة جغرافية المحيطات، ودراسة البصريات الطبيعية. وغني عن البيان أن نقول: إن العصر الذي نزل فيه القرآن كأنما يجهل كلية تراكب الأمواج، وظاهرة امتصاص الضوء واختفائه على عمق معين في الماء، وعلى ذلك فما كان لنا أن ننسب هذا المجاز إلى عبقرية صنعتها الصحراء، ولا إلى ذات إنسانية صاغتها بيئة قارية.
وهو تأكيد على إعجاز القرآن، وأنه منزّل من عند الله سبحانه.