دامت حضارة المسلمين في الأندلس زهاء ثمانية قرون (92ه/711م – 897هـ/ 1492م)، انتقلت فيها شبه الجزيرة الأيبيرية (الأندلس) من قاع الوادي إلى قمم السهول والروابي؛ إذ لم يكن لتلك البقعة الجغرافية أي دور حضاري في العالم القديم، وظل سكانها قرونا متطاولة يستقبلون الحضارات الغازية ولا ينفذون من خلالها إلى حضارة لهم متميزة.
وتسلمها العرب المسلمون من القوط (لقبائل الجرمانية) التي كانت تسلمتها بعد أن هزمت الرومان الغربيون. ولا يحفظ التاريخ لهم حضارة علمية أو لغوية، حتى إن تاريخهم لم يُرو على يد أحد، ولم يكون له وزن في تاريخ الحضارات، بل شاعت فيهم الجهالة في عهد القوط كما كانوا قبلها، كما ذكر وُل ديورانت في قصة الحضارة عنهم (12/ 194).
ومنذ الفتح الإسلامي، تحوّلت الأندلس إلى شعلة للعلم والحضارة، وأصبحت حواضرها ملتقى للحضارات العالمية، وكان إقبال أهل الأندلس أو من وفد إليهم من اليهود والصقالبة على تعلّم اللغة العربية كبيرا؛ إذ كانت لغة العلم وقتها.
وفي سياقنا اللغوي، نستطيع أن نقول أن الأندلس تشرّبت حب العربية وعلومها، وألقت عليها من سحرها الخاص، حتى أصبحت فنون اللغة والأدب في الأندلس ذات مذاق خاص.
يقول ابن خلدون: وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنّن في التعليم وكثرة رواية الشعر والرسائل ومدارسة العربية (النحو) من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي. (المقدمة)
وبرز من الأندلسيين عدد كبير من علماء اللغة والنحو والبلاغة والنقد، يقول د شوقي ضيف: وعلماء اللغة الأندلسيون يعدون بالعشرات في كتاب طبقات النحويين واللغويين للزبيدي، ومن أوائلهم الغازي بن قيس المؤدب بقرطبة حين دخلها عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية هناك سنة ١٣٨ه، وقد رحل الغازي إلى المشرق، والتقى بالأصمعي ونظرائه في اللغة بالبصرة، وأخذ عن مالك الموطأ في الفقه، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن المؤدبين بالأندلس في القرن الثاني والثالث للهجرة كانوا يأخذون أنفسهم بثقافة لغوية ودينية واسعة، وكانوا يرحلون للقاء أئمة اللغة والدين في القراءات والفقه والحديث النبوي.
وعلى شاكلة الغازي في الرحلة والأخذ عن الأصمعي ومالك وغيرهما من الأئمة معاصره أبو موسى الهوارى، وله كتاب في القراءات وكتاب ثان في التفسير. ومن معاصريهما جودي الراحل إلى المشرق المتوفى سنة ١٩٨ وهو تلميذ الكسائي إمام النحو الكوفي وأول من أدخل كتابه إلى قرطبة، وله تأليف في النحو، وكان يعاصره محمد بن عبد الله مؤدب أبناء الحكم الربضي الراحل بدوره إلى المشرق. (تاريخ الأدب العربي)
ومن لغويي الأندلس الكبار عثمان بن المثنى القيسي تلميذ ابن الأعرابي، وقد لقي أبا تمام وأخذ عنه ديوانه وأقرأه بقرطبة، ومنهم محمد بن عبد الله حفيد الغازي السالف ذكره، تتلمذ للغويي العراق من أمثال الرياشي وأبى حاتم وجلب إلى الأندلس علما كثيرا من اللغة والعربية، وعنه روى الأندلسيون الأشعار المشروحات كلها، ومنهم ثابت بن عبد العزيز وابنه قاسم وهما أول من أدخل معجم العين المنسوب إلى الخليل بالأندلس.
وينزل قرطبة أبو على القالى اللغوى الكبير سنة ٣٣٠ه لعهد عبد الرحمن الناصر، فيكون نزوله فيها فاتحة عهد لغوى عظيم، ويستقبله الناصر استقبالا كريما، وينشط في التأليف والتدريس بقرطبة وضاحيتها الزهراء حتى وفاته سنة ٣٥٦ وكان مما أملاه على الطلاب من مؤلفاته كتابه (الأمالي)، وشروحه للمعلقات وروايته للمفضليات والنقائض وشعر الهذليين وإدخاله دواوين النابغة الذبياني وعلقمة والأعشى والحطيئة والشماخ والنابغة الجعدي وأوس بن حجر والقطامي والأخطل وذى الرمة إلى غير ذلك من دواوين الجاهليين والإسلاميين.
ومن لغويي الأندلس المعدودين محمد بن عمر المعروف بابن القوطية، وله مؤلفات في النحو وتصاريف الأفعال، يقول ابن خلكان: (هو الذى فتح للعلماء الكتابة في هذا الموضوع).
وأهم من ابن القوطية في القرن الرابع الزبيدى محمد بن الحسن تلميذ القالي المتوفى سنة ٣٧٩ه وفيه يقول ابن خلكان: كان واحد عصره فى حفظ اللغة وعلم النحو وكان أخبر أهل زمانه بالإعراب والمعاني والنوادر ولم يكن بالأندلس في فنه مثله فى زمانه. وفى مقدمة كتبه اللغوية (مختصر معجم العين للخليل) ويشهد له القدماء بأنه يفضل أصلَه لحذفه منه الأبنية المصحّفة والمختلّة، وزيادته فيه كثيرا من المواد التي يفتقر إليها المعجم مع استدراكه الأخطاء الواقعة فيه.
ومن علماء اللغة الأندلسيين، والذي يعدّ من طبقة الكبار شرقا وغربا في القرن الخامس: ابن سيده على بن إسماعيل الضرير المتوفى سنة ٤٥٨ه وفى المغرّب لابن سعيد: لا يُعلم بالأندلس أشدّ اعتناء من هذا الرجل باللغة ولا أعظم تأليفا، تفخر مدينة مرسية به أعظم فخر. وله معجمان ضخمان: المحكم (ذائع الصيت) وهو على شاكلة كتاب العين مرتب حسب مخارج الحروف، والثاني المخصص وهو موزع على الموضوعات والمعاني في سبعة عشر مجلدا.
ومن علماء اللغة بالأندلس السهيلى عبد الرحمن بن عبد الله المتوفى سنة ٥٨١ه، وكان شغوفا بمحاولة الإكثار من العلل النحوية، وعلى شاكلته عيسى الجزولي المتوفى سنة ٦٠٧ه وله مقدمة في النحو وحواش على كتاب الجمل للزجاجي، ومثله ابن خروف على بن يوسف المتوفى سنة ٦١٠ ويشتهر بشرح له على سيبويه وشرح ثان على كتاب الجمل للزجاجي، وابن مضاء أحمد بن عبد الرحمن القرطبى قاضى قضاة دولة الموحدين المتوفى سنة ٥٩٢ه وهو صاحب كتاب هام في الرد على النحاة. ومن أهم نحاة القرن السابع الأندلسيين الشلوبين عمر بن محمد المتوفى سنة ٦٤٥ه وله شرح على مقدمة الجزولي المسماة بالجزولية وكتاب في النحو سماه التوطئة، وكان يعاصره ابن عصفور على بن مؤمن المتوفّى سنة ٦٦٣ه حامل لواء العربية في زمنه بالأندلس، وله الممتع في التصريف والمقرب في النحو.
وبجانب علوم النحو واللغة عنيت الأندلس بالبلاغة العربية، وظلت حتى نهاية القرن الرابع الهجري تعتمد في ذلك على رواية النصوص الأدبية للناشئة والتعرف على كتابات المشارقة في البيان العربي. ومن علمائهم في البلاغة صاحب كتاب (إحكام صنعة الكلام) الكلاعى أبى القاسم محمد بن عبد الغفور المتوفى حوالى منتصف القرن السادس الهجري، وابن رشد الحفيد الفيلسوف المتوفي 595ه، وكانت له تعليقات بلاغية مفيدة على شرحه لكتابي الخطابة والشعر لأرسطو.