علوم اللغة العربية

من فنون النثر

وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ.. هل هي صيغة مبالغة؟!

مفهوم صيغة المبالغة:

صِيغةُ المُبالغَة هي اسم  يُشتق من الأفعال للدلالة على معنى اسم الفاعل بقصد المبالغة. مثال: لو أردت أن تعبر عن فلان (الصائم) بأنه كثير الصيام، فتقول: فلان صوّام.

والمبالغة في اللغة تعني الاجتهاد وبذل الجهد والتقصّي وعدم التقصير.

وصِيغ المبالغة تعني التكثير والزيادة في معنى الفعل الثلاثي الأصلي، ولا تصاغ في الغالب إلا من مصدر فعل ثلاثي متصرّف، متعدّ، ما عدا صيغة (فَعَّال)؛ فتصاغ من مصدر الثلاثي اللازم والمتعدي، وقد اجتمعا في قول الشاعر:

وإنِّي لَصَبَّارٌ على ما ينوبني … وحسبك أن الله أثنى على الصبر

ولست بِنَظَّارٍ إلى جانب الغنى … إذا كانت العليا في جانب الفقر

ويندر أن تصاغ من غير اسم الفاعل الثلاثي.

أوزان صيغ المبالغة:

وللمبالغة في كلام العرب خمسة أوزان: فَعُولٌ ومِفْعالٌ وفَعّال وفَعِلٌ وفَعيلٌ.

ومن أمثلتها على الترتيب: الجَمَلُ حَقُود. الجُنْدِيُّ مِطْعَان. الْعِلمُ نَفَّاع. الْعاقِلُ حَذِر. اللهُ عَلِيم.

وتكثر المبالغة بالصِّيغ الثلاثة الأُوَل، وتقل في الصيغتين الأخيرتين.

وقد تأتي صيغة المبالغة من غير الفعل الثلاثي مثل: مغوار ومقدام ونذير وبشير من الأفعال الرباعية أغار وأقدم وأنذر وبشّر.

وهناك أوزان كثيرة سماعية غير الخمسة القياسية، وبعضها ورد في القرآن الكريم، واختلف النحويون في عدّ بعضها من صيغ المبالغة، ومنها: مِفْعيل (مِسْكين)، و فُعَلة (هُمزة – لُمزة)، و فِعّيل (صِدّيق – قِدّيس)، وفُعّول (قُدّوس)، وفاعول (فاروق).

وما ربّك بظلّام.. هل هي صيغة مبالغة؟

 جاء في القرآن الكريم: (مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) فصلت:46.

واختلفت أقوال المفسّرين في ردّ شبهة قد ترد على الآية في كلمة (ظلّام)، فهي – في الأصل – صيغة مبالغة وتكثير، ونفي هذه الصيغة يعني نفي الكثرة لا نفي القلّة. وبعبارة أخرى، تنفي الآية كثرة الظلم عن الله سبحانه، ولكنها لا تنفي الظلم القليل.. هذا في أصل الكلام عند حَملِ كلمة (ظلّام) على أنها صيغة مبالغة من (ظالم).

والظلم قد حرّمه الله سبحانه على نفسه، قليله وكثيره بنصّ القرآن، وجعله بين الناس محرّما، فما التأويل الشافي في هذه الآية؟

أما عن أقوال المفسرين، فيقول القرطبي: نفى الظلم عن نفسه جل وعز قليله وكثيره، وإذا انتفت المبالغة انتفى غيرها، دليله قوله الحق: (إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيئا) يونس: 44. وهو تأويل غير شافٍ، لأن بديهيات اللغة تقول أن نفي الكثير لا يعني نفي القليل.

فعندما تقول: فلان ليس ضَرّاباً للنساء أو لأولاده، فهذا لا يستلزم نفي الضرب من أصله، لكن يستلزم نفي الضرب الكثير، أي: قد يحصل الضرب منه لكنه قليل! لكن عندما تقول: فلان ليس ضارباً لأولاده؛ فهذه الصيغة تستلزم نفي الفعل من أصله. وفي الحديث: (المؤمن ليس بلَعَّان) أي: لا يكثر اللعن، لكن قد يقع منه اللعن في مواضعه السائغة شرعاً، لكن لا يغلب عليه.

ويقول الألوسي: الظاهر عندي أن المبالغة حينئذ راجعة إلى النفي نظير ما قيل في قوله تعالى: وما ربك بظلام للعبيد لا أن النفي راجع إلى المبالغة كما لا يخفى. ويبدو – والله أعلم – أنَّ ( ظلام ) صيغة مبالغة، وأنَّ الله – عز وجل – نفى الظلم عن نفسه كبيره وصغيره.

وقال ابن عاشور في (التحرير والتنوير) كلاما جميلا مفسرا لكلام الألوسي: وَأَمَّا صِيغَةُ (ظَلَّامٍ) الْمُقْتَضِيَةُ الْمُبَالَغَةَ فِي الظُّلْمِ فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ قَبْلَ دُخُولِ النَّفْيِ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي وَقَعَتْ هِيَ فِيهَا كَأَنَّهُ قِيلَ: لو عَذّبَ اللَّهُ الْمُسِيءَ لَكَانَ ظَلَّامًا لَهُ وَمَا هُوَ بِظَلَّامٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي: إِنَّ النَّفْيَ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى كَلَامٍ مُقَيَّدٍ قَدْ يَكُونُ النَّفْيُ نَفْيًا لِلْقَيْدِ وَقَدْ يَكُونُ الْقَيْدُ قَيْدًا فِي النَّفْيِ وَمَثَّلُوهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ دَقِيقٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فِي نَفْي الْوَصْفِ الْمَصُوغِ بِصِيغَةِ الْمُبَالغَة من تَمام عَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ جَعَلَ كُلَّ دَرَجَاتِ الظُّلْمِ فِي رُتْبَةِ الظُّلْمِ الشَّدِيدِ.

وعند علماء اللغة يُحلّ ذلك الإشكال، فصيغة (فَعَّال) لم يقل أحد من علماء النحو والتصريف بقصرها على المبالغة، والصيغ اللغوية تشترك في معانيها مع غيرها بلا نكير.

وقد ورد في اللغة العربية أن صيغة (فعّال) تفيد النَّسب إلى مهنة أو عمل، وهو معروف في كلام العرب فتقول: لبّان (بائع اللبن)، وتمّار (باع التمر)، وخيّاط (محترف الخياطة).. فهذه الكلمات، وإن كان جائزا استخدامها في المبالغة، لا يمتنع استخدامها في غير المبالغة، لذا فقد استعملها العرب في النَّسب. ومن هنا نفهم أن معنى (وما ربّك بظلّام) هو نفي نسبة الظلم إلى الله، ونفي النسبة ينفي القليل والكثير.

يقول عباس حسن في النحو الوافي: وجعلوا من استعمالها في النسب قوله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) أي: بمنسوب إلى الظلم، وحجتهم أن صيغة (فعّال) هنا لو كانت للمبالغة وليست للنسب لكان النفي منصبًّا على المبالغة وحدها؛ فيكون المعنى: وما ربك بكثير الظلم؛ فالمنفي هو الكثرة وحدها دون الظلم الذي ليس كثيرًا. وهذا معنى فاسد؛ لأن الله لا يظلم مطلقًا، لا كثيرًا ولا قليلًا.

وللدكتور فاضل السامرائي تأويل وجيه يفيد بأن الجمع يقتضي المبالغة كما في قوله تعالى (عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، فالجمع يناسب أن تأتي معه صيغة المبالغة، وكذلك قوله تعالى (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)، فالعبيد جمع من جموع الكثرة، ويناسبها أن تأتي معها صيغة المبالغة. ألا ترى أن الغَيبَ عندما أُفرد حلّ باسم الفاعل محل صيغة المبالغة في قوله تعالى (عَالِمُ الْغَيْبِ)، والله تعالى أعلم.