علوم اللغة العربية

من فنون النثر

نظرات بلاغية في فاتحة الكتاب الحكيم (2 – 2)

بعد ان تعرّفنا على مظاهر العظمة والرحمة الإلهية التي تنتظم الكون كلّه، ولا يملك الإنسان أمامها إلا أن يلهج لسانه وقلبه مع من حوله من البشر {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

فلننتقل إلى عمل الإنسان، الذي يتألّف من عنصرين: عنصر نظري تعليمي، نرى فيه نماذج الأعمال الإنسانية في مختلف صورها؛ حميدها وذميمها. وعنصر عملي تنفيذي، هو صدى تلك المعرفة، وثمرة تحريكها لعزائمنا.

ولنبدأ بالعنصر النظري: كيف عرض القرآن علينا صور العمل الإنساني؟

إنَّه يتبع في ذلك مَنْهجًا مُزدوجًا، يجمع بين القيم الذاتيَّة والقيم العَرَضِية للأخلاق والسلوك، منهج القيم الذاتية الذي يخاطب الضمير، يدعو إلى الفضيلة باسم الفضيلة، مصورًا ما فيها من جمال واعتدال، وينهى عن الرذيلة باسم الرذيلة، مبينًا ما فيها من دنَس وانحراف.

ومنهج القيم العرَضية الذي يخاطب العاطفة؛ يُرغِّب في الفضيلة، ويُنفِّر من الرذيلة باسم المصلحة الحقيقية، ويحكمُ النَّظر إلى عواقب الأمور وآثارها في العاجل والآجل، ويضرب لذلك الأمثال الكثيرة، ويقصُّ من أجل ذلك السير التاريخية في مختلف العصور.

والعجيب من شأن سورة الفاتحة أنَّها على فرط إيجازها قد انتظمت المنهجين جميعًا في كلمتين! ذلك أنها حين حبَّبت إلينا طريق الفضيلة بيَّنت لنا -أولًا- قيمته الذاتية، فوصفته بالاعتدال والاستقامة: {الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ}[الفاتحة: 6]، ثم بيَّنت ما في عاقبته من نفع وجدوَى، فوصفته بأنَّه الطريق الموصل إلى رضوان الله -تعالى- ونعمته، وأشارت في الوقت نفسه إلى مُثُله التاريخية في سيرة أهله الذين نصَّبوا أنفسهم للقدوة الحسنة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: 7]، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

ثم لم تكتفِ بذلك بل وضعَتْ مِعْيارًا لأنواع الطرق المنحرفة فبيَّنَت أنَّ الانحراف على ضَرْبين: انحراف عن قصد وعلم؛ عنادًا واستكبارًا، واتِّباعًا للهوى، وهذا هو طريق: {المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: 7]، الذين رأوا سبيل الرشد فلم يتخذوه سبيلًا، ورأوا سبيل الغيِّ فاتخذوه سبيلًا. وانحراف عن جهل وطيش، وهذا هو طريق {الضَّالِّينَ}[الفاتحة: 7] الذين لا يتوقفون عند الشكّ، بل يقتفون ما ليس لهم به علم، فيخبطون خبط عشواء، دون تثبُّت ولا تبصُّر.

لا ريب أنَّ كِلا الضَّرْبين مذموم، وإنْ كان بعضهما أسوأ من بعض: العالِم المنحرف مأزور، والجاهل المنحرف غير معذور، والعالِم المستقيم هو المبرور المأجور.

وهكذا نرى السورة الكريمة قد انتظمت المقاصد القرآنية الأربعة: الجانب الإلهي نظريّه وعمليّه، والجانب الإنساني نظريّه وعمليّه، كلّ ذلك في أوجز عبارة وأحكم نسق.

سورة الفاتحة إذن هي خريطة القرآن وفهرست موادّه، إنها جوهرة القرآن ونواته ولبُّ لبابه، فهي بحقٍّ (أُمّ القرآن).

وبقيت نظرة ثانية سريعة، نقارن فيها بين أسلوب الخطاب في الفاتحة، وأسلوب الخطاب في القرآن، ماذا نرى في هذين الأسلوبين؟

نرى اتجاهين مختلفين تمام الاختلاف:

فسورة الفاتحة هي السورة الوحيدة، التي وضعت أول الأمر، لا على لسان الربوبيَّة العليا، ولكن على لسان البشريَّة المؤمنة؛ تعبيرًا عن حركة نفسيَّة جماعيَّة مُتطلعة إلى السماء، بينما سائر السور تعبِّر عن الحركة المقابلة، حركة الرحمة المرسلة من السماء إلى الأرض، وهكذا حين ننظر إلى القرآن في جملته نراه يتمثَّل أمامنا في صورة مُناجاة ثنائيَّة، الفاتحة أحد طرفيها، وسائر القرآن طرفها الآخر، الفاتحة سؤال، وباقي القرآن المطلوب.

فلننفذ بهذه النظرة إلى نهايتها، فإنَّها ستعود إلينا بحصيلة ثمينة من العِبَر النفيسة، أول ما نلتقطه من هذه العبر أنَّ القرآن (وهو دستور الإسلام) لو جاءنا بدون الفاتحة لكان دستورًا وافدًا على الأُمَّة، طارئًا عليها، يعرض نفسه عليها عرضًا، أو يفرض عليها فرضًا، أو يمنح لها منحة، فليكن مع ذلك حقًّا كلّه، وخيرًا كلّه، وهدًى كلّه.

لكنه لو لم تطلبه الأمة، ولو لم تعلن حاجتها إليه، لكان لها أن تستقبله كما تستقبل البضاعة المعروضة بغير طلب، وأن تقول له زاهدة فيه: لا حاجة بي إليك، أمّا الآن فالموقف يختلف كلّ الاختلاف.

إنَّ موقع الفاتحة هنا موقع القرار الجماعي الذي تُعلِن به الأُمَّة المؤمنة حاجتها إلى هذا الدستور وتؤكِّد مُطالبتها به، وإنّ موقع القرآن كلّه بعد الفاتحة هو موقع القبول والاستجابة لهذا المطلب، فما هو إلا أن أعلن المؤمنون مَطْلبهم هذا قائلين: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ}[الفاتحة: 6]، وإذا بالقرآن يزفُّ إليهم هديته وهدايته قائلًا لهم: دونكم الهدى الذي تطلبونه، فكانت أول كلمة في القرآن بعد الفاتحة هي: {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة: 2]، وهكذا جاءهم على ظمأ وتعطش، فكان أنفع لغلَّتهم، وكان أكرم في نفسه وعلى الناس مِن أن يتعرَّض للمُعرِضين عنه، أو أن يُلزِم مَن هم له كارهون، وكان فوق ذلك كلّه أقطع لحججهم ومعاذيرهم في إهماله ونسيانه لو أهملوه أو نسوه فيما بعد، ذلك أنَّه لم يُلزِمهم إلا بما التزموا، ولم يجئهم إلا بما طلبوا، وخير الدساتير ما نبع من حاجة الأمَّة، وكان تحقيقًا صريحًا لمطامحها الرشيدة.

إذا نظرنا إلى الفاتحة من هذه الزاوية فإنه يحقُّ لنا أن نقول: إنَّ القرآن إذا كان هو الدستور، فالفاتحة هي أساس الدستور.. بل لو صحَّ هذا التعبير، لقلنا إنَّها دستور الدستور.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

 نظرات في فاتحة الكتاب الحكيم للشيخ محمد عبد الله دراز (باختصار)

نشرت هذه المقالة في مجلة (المجلة)، العدد 7، ذو الحجة 1376هـ، 1957م.