علوم اللغة العربية

من فنون النثر

من عبرات المنفلوطي: الهاوية (2)

ها هو المنفلوطي يقف ليحدّث صديقه ما أوصته به الزوجة المكلومة.. ولندعه يعبّر بقلمه الفياض عن هذه الحياة البائسة، يقول:

وكأنما ألمَّ بما في نفسي، وعرف أني قد علمتُ من أمره كل شيءٍ، فأطرق برأسه إطراقَ من يرى أن باطن الأرض خيرٌ له من ظهرها، ولم يقل شيئًا، فدنوت منه حتى وضعت يدي على عاتقه، وقلت له: ولله ما أدري ماذا أقول eلك، أأعظُكَ، وقد كنتَ واعظي بالأمس، ونجمَ هُداي الذي أستنير به في ظلماتِ حياتي؟! أم أرشدك إلى ما أُوجبَ لله عليك في نفسك وفي أهلك.  ولا أعرف شيئًا أنت تجهله، ولا تصل يدي إلى عِبرة تَقصُر يدُك عن نيلها؟ أم أسترحمُك لأطفالك الضعفاء وزوجتك البائسة المسكينة التي لا عضُد لها في الحياة ولا معين سواك وأنت صاحب القلب الرحيم الذي طالما خفق بالبُعداء، فأحرى أن يخفق رحمةً بالأقرباء؟!

إن هذه الحياة التي تحياها يا سيدي إنما يلجأ إليها الهُمَّل العاطلون الذين لا يصلحون لعملٍ من الأعمال، ليتواروا فيها عن الناس حياءً وخجلًا حتى يأتيهم الموت فينقذهم من عارهم وشقائهم، وما أنت بواحدٍ منهم.

إنك تمشي يا سيدي في طريق القبر، وما أنت بناقمٍ على الدنيا ولا بمتبرّمٍ بها، فما رغبتك في الخروج منها خروج اليائسِ المنتحر؟!ِ عذرتك لو أن ما ربحت في حياتك الثانية يقوم لك مقام ما خسرت من حياتك الأولى، ولكنك تعلم أنك كنت غنيٍّا فأصبحت فقيرًا، وصحيحًا فأصبحت سقيمًا، وشريفًا فأصبحت وضيعًا، فإن كنت ترى بعد ذلك أنك سعيد، فقد خَلَتْ رقعةُ الأرض من الأشقياء!

إنّ كلّ ما يعنيك من حياتك هذه أن تطلب فيها الموت، فاطلبه في جرعة سُمٍّ تشربها دفعة واحدة، فذلك خير لك من هذا الموت المتقطع الذي يكثر فيه عذابك وألمك، وتعظم فيه آثامك وجرائمك، وما يعاقبك الله على الأخرى بأكثر مما يعاقبك على الأولى.

حسبُنا يا صديقي من الشقاء في هذه الحياة ما يأتينا به القدر، فلا نضم إليه شقاء جديدًا نجلبه بأنفسنا لأنفسنا! فهاتِ يدَك وعاهدني على أن تكونَ لي منذ اليوم كما كنتَ لي بالأمس، فقد كنا سعداء قبل أن نفترق، ثم افترقنا فشقينا، وها نحن أولاء قد التقينا، فلْنَعِشْ في ظلال الفضيلة والشرف سعداء كما كنا.

ثم مددت يدي إليه، فراعني أنه لم يحرك يده، فقلت له: ما لك لا تمد يدك إليَّ؟

فاستعبر باكيًا وقال: لأنني لا أحب أن أكون كاذبًا ولا حانثًا.

قلت: وما يمنعك من الوفاء؟

قال: يمنعني منه أنني رجل شقيٌّ، لا حظَّ لي في سعادة السعداء.

قلت: قد استطعت أن تكون شقيّاً، فلِمَ لا تستطيع أن تكون سعيدًا؟

قال: لأن السعادة سماءٌ والشقاء أرضٌ، والنزولُ إلى الأرض أسهلُ من الصعود إلى السماء، وقد زلَّت قدمي عن حافة الهوّة فلا قدرة لي على الاستمساك حتى أبلغ قَرارتها، وشربتُ أول جرعة من جرعات الحياة المريرة، فلا بد لي أن أشربها حتى ثمالتها، ولا شيء من الأشياء يستطيع أن يقف في سبيلي إلا شيء واحد فقط، هو ألا أكون قد شربت الكأس الأول قبل اليوم، وما دمت قد فعلت فلا حيلة لي فيما قضى الله.

قلت: ليس بينك وبين النزوع إلا عَزْمَةً صادقة تعزمُها فإذا أنت من الناجين.

قال: إن العزيمة أثر من آثار الإرادة، وقد أصبحت رجلًا مغلوبًا على أمري، لا إرادة لي ولا اختيار، فدعني يا صديقي والقضاء يصنع بي ما يشاء، وابكِ صديقك القديم منذ اليوم، إن كنت لا ترى بأسًا في البكاء على الساقطين المذنبين.

ثم انفجر باكيًا بصوتٍ عالٍ وتركني مكاني دون أن يحييَني بكلمة، وخرج هائمًا على وجهه لا أعلم أين ذهب، فانصرفتُ لشأني وبين جنبيّ من الهم والكمد ما الله به عليم.

لم يستطع رئيس الديوان أن يحمل نديمه بالأمس زمنًا طويلًا، فأقصاه عن مجلسه استقلالًا له، ثم عزله عن وظيفته استنكارًا لعمله، ولم تذرف عينه دمعة واحدة على منظرِ صريعِهِ الساقطِ بين يديه، ولم يستطع مالكُ البيت الجديد أن يهمل فيه المالكَ القديم أكثر من بضعة أشهرٍ ثم طرده منه، فلجأ هو وزوجته وولداه إلى غرفة حقيرة في بيت قديمٍ في زقاق مهجور، فأصبحتُ لا أراه بعد ذلك إلا ذاهبًا إلى الحانةً أو عائدًا منها، فإن رأيته ذاهبًا زويتُ وجهي عنه، أو عائدًا دنوت منه فمسحت عن وجهه ما لصق به من التراب أو عن جبينه ما سال منه من الدم، ثم قدته إلى بيته.

وهكذا، ما زالت الأيام والأعوام تأخذ من جسم الرجل ومن عقله، حتى أصبح ظلّاً من الظلال المتنقلة، أو حلمًا من الأحلام السارية، يمشي في طريقه مِشية الذاهل المشدوه، لا يكاد يشعر بشيءٍ مما حوله، ولا يتقي ما يعترض سبيله حتى يدانيه، ويقف حينًا بعد حين فيدور بعينيه حول نفسه، كأنما يفتش عن شيءٍ أضاعه وليس في يده شيء يضيع، أو يُقلب نظره في أثوابه، وما في أثوابه غير الرقاع والخِرَق! وينظر إلى كل وجهٍ يقابله نظرةً شزراء كأنما يستقبل عدوّاً بغيضًا وليس له عدو ولا صديق، وربما تعلَّق بعض الصبيان بعاتقه فدفعهم عنه بيده دفعًا لينًا غير آبهٍ ولا محتفل، كما يدفع النائم المستغرق عن عاتقه يدَ موقظه، حتى إذا خلا جوفه من الخمر وهدأت سورتها في رأسه، انحدر إلى الحان فلا يزال يشرب ويتزايد حتى يعود إلى ما كان عليه.

ولم يَزَلْ هذا شأنه حتى حدثت منذ بضعة أشهرٍ الحادثة الآتية: عجزتْ تلك الزوجة المسكينة أن تجد سبيلًا إلى القوت، وأبكاها أن ترى ولدها وابنتها باكيَيْن بين يديها، تنطق دموعُهما بما يصمت عنه لسانُهما، فلم تَرَ لها بُدًّا من أن تَركَب تلك السبيل التي يركبها كل مضطرٍّ عديم، فأرسلتهما خادمَيْن في بعض البيوت يقتاتان فيها ويُقيتانها، فكانت لا تراهما إلا قليلًا، ولا ترى زوجها إلا في الليلة التي تغفل فيها عنه عيون الشرطة، وقلما تغفل عنه، فأصبحت وحيدةً في غرفتها لا مؤنس لها ولا معين إلا جارة عجوز، تختلف إليها من حين إلى حين، فإذا فارقتها جارتها وخَلَت بنفسها، ذكرت تلك الأيام السعيدة التي كانت تتقلب فيها في أعطاف العيش الناعم والنعمة السابغة، بين زوج كريمٍ وأولادٍ كالكواكب الزُّهْر حُسنًا وبهاءً، ثم تذكر كيف أصبح السيد مَسُودًا، والمخدوم خادمًا، والعزيز الكريم ذليلًا مهينًا، وكيف انتثر ذلك العقد اللؤلؤي المنظوم الذي كان حليةً بديعة في جيد الدهر، ثم استحال بعد انتثاره إلى حصياتٍ منبوذات على سطح الغبراء، تطؤها النعالُ وتدوسها الحوافر والأقدام، فتبكي بكاء الواله في إثر قوم ظاعنين حتى تتلفَ نفسها أو تكاد!

على أنها ما أضمرت قط في قلبها حقدًا لذلك الإنسان الذي كان سببًا في شقائها وشقاء ولديها، ولا حدَّثتها نفسُها يومًا من الأيام بمغاضبته أو هجرانه؛ لأنها امرأةٌ شريفة، والمرأة الشريفة لا تغدر بزوجها المنكوب، بل كانت تنظر إليه نظرة الأم الحنون إلى طفلها الصغير، فترحمه وتعطف عليه، وتسهر بجانبه إن كان مريضًا، وتأسو جراحه إن عاد جريحًا، وربما طرده الخَمَّار في بعض لياليه من حانِهِ حينما لا يجد معه ثمن الشراب، فيعود إلى بيته ثائرًا مهتاجًا يطلب الشراب طلبًا شديدًا، فلا تجد بُدّاً من أن تعطيه نفقة طعامها، أو تبتاع له من الخمر ما يسكن به نفسه، رحمةً به وإبقاءً على تلك البقية الباقية من عقله.

وكأن الدهر لم يكفِهِ ما وضع على عاتقها من الأثقال، حتى أضاف إليها ثقلًا جديدًا، فقد شعرت في يوم من أيامها بنسمة تتحرك في أحشائها، فعلمت أنها حاملٌ، وأنها ستأتي إلى دار الشقاء بشقيٍّ جديد، فهتفت صارخة: رحمتك اللهم، فقد امتلأت الكأس حتى ما تسع قطرة واحدة! وما زالت تكابد من آلام الحمل ما يجب أن تكابده امرأة مريضة منكوبة، حتى جاءت ساعة وضعها، فلم يحضرها أحد إلا جارتها العجوز، فأعانها لله على أمرها فوضعت، ثم مرضت بعد ذلك بحمى النفاس مرضًا شديدًا، فلم تجد طبيبًا يتصدق عليها بعلاجها؛ لأن البلد الذي لا يستحي أطباؤه أن يطالبوا أهل المريض بعد موته بأجرة علاجهم الذي قتله، لا يمكن أن يوجد فيها طبيبٌ محسن أو متصدقٌ، فما زال الموت يدنو منها رويدًا رويدًا حتى أدركتها رحمة لله، فوافاها أجلها في ساعة لا يوجد فيها بجانبها غير طفلتها الصغيرة عالقة بثديها.

في هذه الساعة دخل الرجل ثائرًا مهتاجًا يطلب الشراب ويفتش عن زوجته لتأتي له منه بما يريد، فدار بعينيه في أنحاء الغرفة حتى رآها ممدّدة على حصيرها، ورأى ابنتها تبكي بجانبها، فظنها نائمة، فدنا منها ودفع الطفلة بعيدًا عنها، وأخذ يحركها تحريكًا شديدًا فلم يشعر بحركة، فرابه الأمر وأحس برعدة تتمشى في أعضائه حتى أصابت قلبه، فبدأ صوابه يعود إليه شيئًا فشيئًا، فأكبَّ عليها يحدق في وجهها تحديقًا شديدًا، ويزحف نحوها رويدًا رويدًا حتى رأى شبح الموت يحدّقُ إليه من عينيها الشاخصتين الجامدتين، فتراجع خوفًا وذعرًا، فوطئ في تراجعه صدر ابنته، فأنَّتْ أَنَّةً مؤلمة لم تتحرك بعدها حركة واحدة، فصرخ صرخةً شديدة وقال: وا شقاءاه! وا شقاءاه!

وخرج هائمًا على وجهه يعدو في الطرق ويضرب رأسه بالعُمُد والجدران، ويدفع كل ما يجد في طريقه من إنسان أو حيوان ويصيح: ابنتي! زوجتي! هلموا إليّ! أدركوني! حتى أعيا فسقط على الأرض، وأخذ يفحص التراب برجليه ويئن أنين الذبيح، والناس من حوله آسفون عليه، لا لأنهم يعرفونه، بل لأنهم قرؤوا في وجهه آيات شقائه، فكانت تلك اللحظة القصيرة التي استفاق فيها من ذهوله الطويل سببًا في ضياع ما بقي من عقله.

وما هي إلا ساعة أو ساعتان حتى أصبح مقيدًا مغلولًا في قاعة من قاعات البيمارستان!(1) فوا رحمتاه له ولزوجته الشهيدة ولطفلته الصريعة ولأولاده المشردين البؤساء!

 المصادر

(1) البيمارستان هو المشفى.