علوم اللغة العربية

من فنون النثر

من عبرات المنفلوطي: الهاوية (1)

 مصطفى لطفي المنفلوطي (1293ه – 1342ه)، ابن النيل والأزهر، وربيب أسرة العلماء والنبهاء، وحافظ القرآن في التاسعة من عمره، والمتضلّع من لغتنا وتراثنا وتاريخنا، والناقل الأمين لعيون الأدب الغربي بما يناسب بيئتنا ومعتقداتنا.

أديب مطبوع، قال في (النظرات) أنه تعمّق في دراسة العربية دون حفظ لأسلوب أحد من شعرائها وأدبائها، فجاء نسيجا وحده، تدلّ كتاباته على نفسها بنفسها.

ليس هناك داعٍ للإسهاب في التعريف، ولندع قصته (الهاوية) تتحدث بنفسها:

الهاوية.. الجزء الأول

ما أكثرَ أيّامَ الحياةِ وما أقلَّها؟!

لم أَعِش من تلك الأعوامِ الطِّوال التي عشتُها في هذا العالم إلا عامًا واحدًا، مرَّ بي كما يمرّ النجمُ الدهريُّ في سماء الدنيا ليلةً واحدة، ثم لا يراه الناس بعد ذلك.

قضيتُ الشطرَ الأوّلَ من حياتي أُفتّشُ عن صديقٍ ينظر إلى أصدقائه بعينٍ غيرِ العينِ التي ينظر بها التاجرُ إلى سِلعتِه، والزارعُ إلى مَاشِيَتِه، فأعْوَزَني ذلك حتى عرفت (فلانًا) منذ ثمانيةَ عشرَ عامًا، فعرفت امرأً ما شئتُ أن أرى خُلَّة من خِلال الخيرِ والمعروفِ في ثيابِ رجلٍ إلا وجدتُها فيه، ولا تخيلتُ صورةً من صورِ الكمالِ الإنسانيّ في وجه إنسانٍ إلا أضاءتْ لي في وجهه، فجلَّتْ مكانتُه عندي، ونزلَ من نفسي منزلةً لم ينزلها أحدٌ من قبله، وصَفَتْ كأسُ الودِّ بيني وبينه لا يكدّرها علينا مكدّرٌ.

حتى عرض إليَّ من حوادثِ الدّهرِ ما أزعجني من مُستقري، فهجرت القاهرة إلى مسقطِ رأسي، غيرَ آسفٍ على شيءٍ فيها إلا على فراقِ ذلك الصديقِ الكريمِ، فتراسلنا حقبةً من الزمنِ، ثم فَتَرَتْ عني كُتُبه ثم انقطعتْ، فحزنتُ لذلك حزنًا شديدًا، وذهبتْ بي الظنون في شأنه كل مذهب، إلا أنْ أرتاب في صدقِهِ ووفائِهِ، وكنتُ كلما هَمَمْت بالمسيرِ إليه لتعرُّفِ حالِه قعدَ بي عن ذلك همٌّ كان يقعدني عن كل شأنٍ حتى شأن نفسي، فلم أعد إلى القاهرة إلا بعد أعوامٍ، فكان أولُ همِّي يوم هبطتُ أرضها أن أراه، فذهبت إلى منزله في الساعة الأولى من الليل، فرأيت ما لا تزال حسرته متصلةً بقلبي حتى اليوم.

تركتُ هذا المنزلَ فِردوسًا صغيرًا من فراديس الجنان تتراءى فيه السعادة في ألوانها المختلفة، وتترقرقُ وجوهُ ساكنيه بِشرًا وسرورًا، ثم زرته اليوم فخُيِّل إليَّ أنني أمام مقبرةٍ موحشةٍ ساكنةٍ، لا يهتف فيها صوتٌ، ولا يتراءى في جوانبها شَبَحٌ، ولا يلمعُ في أرجائها مصباحُ، فظننتُ أني أخطأتُ المنزلَ الذي أريده، أو أنني بين يدي منزلٍ مهجورٍ، حتى سمعتُ بكاءَ طفلٍ صغيرٍ، ولمحتُ في بعض النوافذ نورًا ضعيفًا، فمشيتُ إلى الباب فطرقتُهُ، فلم يُجِبني أحد، فطرقته أخرى، فلمحتُ من خَصَاصِهِ(1) نورًا مقبلًا، ثم لم يلبثْ أن انفرج لي عن وجه غلامٍ صغيرٍ في أَسْمَالٍ(2) باليةٍ يحمل في يده مصباحًا ضئيلًا، فتأملتُه على ضوء المصباحِ فرأيتُ في وجهه صورةَ أبيه، فعرفت أنه ذلك الطفلُ الجميلُ المدلّل الذي كان بالأمس زهرةَ هذا المنزل وبدرَ سمائه، فسألته عن أبيه فأشار إليَّ بالدخول ومشى أمامي بمصباحه، حتى وصل بي إلى قاعة شعثاءَ مُغْبِرةٍ باليةِ المقاعد والأستار، ولولا نقوشٌ لاحت لي في بعض جدرانها كباقي الوشم في ظاهر اليد، ما عرفت أنها القاعة التي قضينا فيها ليالي السعادة والهناء اثني عشر هلالًا.

ثم جرى بيني وبين الغلام حديث قصيرٌ عرف فيه من أنا، وعرفت أن أباه لم يعد إلى المنزل حتى الساعة، وأنه عائدٌ عما قليل، ثم تركني ومضى، وما لبث إلا قليلًا حتى عاد يقول لي إن والدته تريدُ أن تحدثني حديثًا يتعلقُ بأبيه، فخفق قلبي خفقة الرعبِ والخوفِ، وأحسستُ بشرٍّ لا أعرف مأتاه.

ثم التفتُّ فإذا امرأةٌ ملتفةٌ برداءٍ أسودَ واقفةٌ على عتبة الباب، فحيَّتني فحيَّيتها، ثم قالت لي: هل علمتَ ما صنع الدّهرُ بفلانٍ من بعدك؟

قلت: لا، فهذا أول يوم هبطتُ فيه هذا البلدَ بعد ما فارقتُهُ سبعة أعوام.

قالت: ليتك لم تفارقْه، فقد كنتَ عِصْمَتَه التي يعتصمُ بها، وحِماه من غوائلِ الدهر وشرورِه، فما هو إلا أن فارقتَه حتى أحاطت به زمرةٌ من زُمَرَ الشيطان، وكان فتًى – كما تعلمه – غريرًا ساذجًا، فما زالتْ تُغريهِ بالشرِّ وتُزيّن له منه ما يُزيّن الشيطان للإنسان، حتى سقط فيه، فسقطنا جميعًا في هذا الشقاء الذي تراه!

قلت: وأيَّ شرٍّ تريدين يا سيدتي؟ ومَن هم الذين أحاطوا به فأسقطوه؟

قالت: سأقص عليك كلَّ شيءٍ، فاستمع لما أقول: ما زال الرجل بخير حتى اتصل بفلانٍ رئيسِ ديوانه، وعَلِقتْ حبالُه بحبالِه، وأصبح من خاصته الذين لا يفارقون مجلسه حيث كان، ولا تزال نعالهم خافقةً وراءه في غدواته وروحاته، فاستحال من ذلك اليوم أمرُه، وتنكَّرت صورةُ أخلاقة، وأصبح منقطعًا عن أهله وأولاده، لا يراهم إلا الفينة بعد الفينة، وعن منزلِه لا يزورُه إلا في أخريات الليالي، ولقد اغتبطتُ في مبدأ الأمر بتلك الحُظوةِ التي نالها عند ذلك الرئيس والمنزلة التي نالها من نفسه، ورجوت له من ورائها خيرًا كثيرًا؛ مغتفِرةً في سبيل ذلك ما كنت أشعر به من الوحشة والألم لانقطاعِه عني، وإغفالِه أمري وأمرَ أولاده، حتى عاد في ليلة من الليالي شاكيًا متألمًا يكابدُ غصصًا شديدةً وآلامًا جسامًا، فدنوت منه، فشَمِمْتُ من فمه رائحةَ الخمر، فعلمتُ كل شيء.

علمت أن ذلك الرئيس العظيم هو قدوة مرؤوسِه؛ في الخير إن سلك طريق الخير، والشرّ إن سلك طريق الشرّ، قاد زوجي الفتى المسكين إلى شرِّ الطريقين، وسلك به أسوأَ السبيلين، وأنه ما كان يتخذهُ صديقًا كما زعم، بل نديمًا على الشراب، فتوسّلتُ إليه بكل عزيزٍ عليه، وسكبتُ على يديه من الدموع ِكلَّ ما تستطيع أن تسكبَه عين، رجاء أن يعود إلى حياته الأولى التي كان يحياها سعيدًا بين أهله وأولاده، فما أجديتُ عليه شيئًا.

ثم علمت بعد ذلك أن اليد التي ساقته إلى الشرابِ قد ساقته إلى الّلعِبِ، فلم أعجبْ لذلك؛ لأني أعلم أن طريق الشرِّ واحدة، فمن وقفَ على رأسِها لا بد له أن ينحدر فيها حتى يصل إلى نهايتها، فأصبح ذلك الفتى النبيل الشريف – الذي كان يَعِفُّ بالأمس عن شُربِ الدواء إذا اشتمَّ فيه رائحةَ النبيذ، ويستحي أن يجلس في مجتمع فيه قوم شاربون -سكِّيرًا مُقامرًا، مُستهترًا لا يحتشم ولا يتلوَّم، ولا يتقي عارًا ولا مأثمًا.

وأصبح ذلك الأبُ الرحيم والزوج الكريم – الذي كان يضنُّ بأولاده أن يَعْلَقَ بهم الذَّرُّ، وبزوجه أن يتجَهَّم لها وجهُ السماء – أبًا قاسيًا، وزوجًا سليطًا، يضرب أولاده كلما دَنَوا منه، ويشتُمُ زوجته وينتهرُها كلّما رآها، وأصبح ذلك الرجل الغيورُ الضّنينُ بعرضه وشرفه لا يبالي أن يعود إلى المنزلِ في بعض الليالي في جمعٍ من عشرائه الأشرار، فيصعد بهم إلى الطبقة التي أنامُ فيها أنا وأولادي فيجلسون في بعض غُرَفِها، ولا يزالون يشربون ويَقصِفون حتى يذهب بعقولهم الشراب، فيهتاجوا ويرقصوا ويملؤوا الجوَّ صراخًا وهتافًا، ثم يتعادَوا بعضهم وراء بعض في الأبهاء والحجرات حتى يلِجُوا علَىَّ بابَ غرفتي، وربما حدَّق بعضهم في وجهي أو حاول نزعَ خِماري على مرأًى من زوجي ومسمعٍ فلا يقولُ شيئًا، ولا يستنكرُ أمرًا، فأفرُّ بين أيديهم من مكانٍ إلى مكانٍ، وربما فررتُ من المنزلِ جميعِهِ وخرجتُ بلا إزار ولا خمارٍ، غير إزار الظلام وخماره، حتى أصل إلى بيت جارةٍ من جاراتي؛ فأقضي عندهم بقية الليل.

وهنا تغيَّرتْ نغمةُ صوتها، فأمسكت عن الحديثِ وأطرقتْ برأسِها، فعلمتُ أنها تبكي، فبكيتُ بيني وبين نفسي لبكائها، ثم رفعتْ رأسَها، وعادت إلى حديثها تقول: وما هي إلا أعوامٌ قلائل حتى أنفق جميعَ ما كان في يده من المال، فكان لا بد له أن يستدين، ففعل، فأثقله الدَّينُ، فرهنَ، فعجز عن الوفاء، فباع جميعَ ما يملكُ حتى هذا البيت الذي نسكنه، ولم يبقَ في يده غيرَ راتبه الشهري الصغير، بل لم يبقَ في يده شيء حتى راتبه؛ لأنه لا يملكه إلا ساعةً من نهار، ثم هو بعد ذلك مِلكٌ للدائنين، أو غنيمةٌ للمقامرين!

هذا ما صنعت يد الدهر به، أما ما صنَعَتْ بي وبأولادي، فقد مرَّ على آخر حليةٍ بعتُها من حِلَايَ عامٌ كامل، وها هي ذي حوانيت المرابين والمسترهنين ملأى بملابسي، وأدوات بيتي وأثاثه، ولولا رجل من ذوي قرباي رقيقُ الحال يعود عليَّ من حين إلى حين بالنزر القليل مما يستلُّه من أشداقِ عيالِه لهلكتُ وهلك أولادي جوعًا.

فلعلك تستطيع يا سيدي أن تكون عونًا لي على هذا الرجل المسكين، فتنقذه من شقائه وبلائه بما ترى له في ذلك الرأيَ الصالح، وأحسب أنك تقدر منه – للمنزلة التي تنزلُها من نفسه – على ما عجز عنه الناسُ جميعًا، فإن فعلتَ أحسنتَ إليه وإلينا إحسانًا لا ننسى يَدَكَ فيه حتى الموت.

ثم حيَّتني ومضت لسبيلها، فسألتُ الغلامَ عن الساعةَ التي أستطيعُ أن أرى أباه فيها في المنزل، فقال: إنك تراه في الصباحِ قبل ذهابِه إلى الديوان. فانصرفتُ لشأني، وقد أضمرتُ بين جنبيّ لوعةً ما زالت تُقيمُني وتُقعدُني وتذودُ عن عيني سِنَةَ الكرى حتى انقضى الليل، وما كاد ينقضي.

ثم عدت في صباح اليوم الثاني؛ لأرى ذلك الصديق القديم الذي كنت بالأمس أسعدَ الناس به، ولا أعلم ما مصيرُ أمري معه بعد ذلك، وفي نفسي من القلق والاضطراب ما يكون في نفس الذاهب إلى ميدان سباقٍ قد خاطر فيه بجميع ما يمتلك، فهو لا يعلم أيكون بعد ساعة أسعد الناس أم أشقاهم!

الآن عرفت أن الوجوه مرايا النفوس، تضيء بضيائها وتظلم بظلامها، فقد فارقتُ الرجل منذ سبع سنوات فأنستني الأيام صورتَه، ولم يبقَ في ذاكرتي منها إلا ذلك الضياء اللامع، ضياء الفضيلة والشرف الذي كان يتلألأ فيها تلألؤ نور الشمس في صفحتها، فلما رأيته الآن – ولم أَرَ أمام عيني تلك الغلالةَ البيضاءَ(3) التي كنت أعرفها – خيِّل إليَّ أنني أرى صورةً غير الصورة الماضية، ورجلًا غير الذي كنت أعرفه من قبل.

لم أرَ أمامي ذلك الفتى الجميل الوضَّاح، الذي كان كل منبت شعرة في وجهه فمًا ضاحكًا تموج فيه ابتسامةٌ لامعة، بل رأيت مكانه رجلًا شقيّاً منكوبًا، قد لبسَ الهِرَمَ قبل أوانه، وأوفى على الستين قبل أن يسلخَ الثلاثين، فاسترخى حاجباه، وثقلت أجفانه، وجمدت نظراته، وتهدَّل عارضاه، وتجعَّد جبينه، واستشرف عاتقاه، وهوى رأسه بينهما هويَّه بين عاتقَي الأحدب، فكان أول ما قلت له: لقد تغيَّر فيك كل شيءٍ يا صديقي، حتى صورتك!

 المصادر

(1) الخصاص: كلُّ خَلَل أو خَرْق أو شَقّ في باب أو بُرْقُع ونحوهما.

(2) الأسمال جمع سَمَل: ثيابٌ بالية وقديمة.

(3) الغلالة قميص رقيق تغطيه ثياب خارجية.