علوم اللغة العربية

من فنون النثر

من الأدب الصغير لابن المقفّع

ابن المُقفّع .. ناثر الحكمة وأول مترجم إلى العربية

عبد الله بن المقفّع (106 – 142 هـ) فارسي الأصل، وأديب اجتماعي وأخلاقي مطبوع، وهو صاحب كتاب كليلة ودمنة ذائع الصيت، وصاحب الأدب الكبير والأدب الصغير. وكتبه تحوي درراً من حلي الحكمة والأدب ومكارم الأخلاق.

وابن المقفّع لا يخفي أنه ناقل لأغلب ما يكتب، ولكنه يصطفي أجود المنقول، ويلقي عليه من نفسه الشاعرة ما يشبع ويمتع.

وأسلوب ابن المقفّع هو السهل الممتنع, أفكار متسقة, وقوة منطق، وألفاظ سهلة، فصيحة منتقاة، قوية المدلول على المعاني، ونجد فيه من البلاغة أرفع درجاتها، وقد كان يوصي بالابتعاد عن وحشي الألفاظ, ومبتذل المعنى، فيقول مخاطبًا أحد الكتاب: إياك والتتبع لوحشي الكلام؛ طمعًا في نيل البلاغة, فإن ذلك العيّ الأكبر.

وقد ساد أسلوبه, واحتذاه بلغاء الكتاب، وظل سائدا حتى ظهر أسلوب الجاحظ.

وفضله ابن المقفّع عظيم على العربية، فهو أول من أدخل إليها الحكمة الفارسية, والهندية, والمنطق اليوناني, وعلم الأخلاق, وسياسة الاجتماع, وأول من عرَّب، وألَّف، ورفع في كتبه النثر العربي إلى أعلى درجات الفن.

الرغبات الثلاث وطبقات الناس:

يقول ابن المقفّع: وعلى العاقل أن لا يكون راغبًا إلا في إحدى ثلاث: تزوّد لمعاد، أو مَرَمّة(1) لمعاش، أو لذّة في غير مُحرّم.

وعلى العاقل أن يجعل الناس طبقتين متباينتين، ويلبس لهم لباسين مختلفين، فطبقة من العامة يلبس لهم لباس انقباض وانحجاز وتحفظ في كل كلمة وخطوة، وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشدد, ويلبس لباس الأَنَسة واللطفة والبذلة(2) والمفاوضة, ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحدًا من الألف, وكلهم ذو فضل في الرأي، وثقة في المودة، وأمانة في السر، ووفاء بالإخاء.

**************

وعلى العاقل أن لا يستصغر شيئا من الخطأ في الرأي، والزّلل في العلم، والإغفال في الأمور؛ فإنه من استصغر الصغير أوشك أن يجمع إليه صغيرًا وصغيرًا، فإذا الصغير كبير, وإنما هي ثُلّم يُثْلِمُها العجز والتضييع, فإذا لم تُسدَّ أوشكت أن تتفجر بما لا يطاق, ولم نر شيئًا قط إلا قد أُتى من قبل الصغير المتهاون به، قد رأينا الملك يؤتى من العدو المحتقَر به، ورأينا الصحة تؤتى من الداء الذي لا يُحفل به، ورأينا الأنهار تنبثق من الجدول الذي يُستخف به.

وأقل الأمور احتمالًا للضياع المُلك؛ لأنه ليس شيءٌ يضيع، وإن كان صغيرًا، إلا اتصل بآخر, يكون عظيمًا.

**************

وعلى العاقل أن يجبُن عن المضيّ على الرأي الذي لا يجد عليه موافقًا, وإن ظن أنه على اليقين.

وعلى العاقل أن يعرفَ أن الرأي والهوى متعاديان، وأن من شأن الناس تسويفَ الرأي, وإسعافَ الهوى، فيخالف ذلك, ويلتمس أن لا يزال هواه مُسَوَفًّا ورأيه مسعفًا.

وعلى العاقل إذا اشتبه عليه أمران فلم يدْرِ في أيهما الصواب, أن ينظر أهواهما عنده، فيحذره.

ومن نصب نفسه للناس إمامًا في الدين، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمة والرأي واللفظ والأخْدان؛ فيكون تعليمه بسيرته أبلغ من تعليمه بلسانه, فإنه كما أن كلام الحكمة يونق(3) الأسماع، فكذلك عمل الحكمة يروق العيون والقلوب, ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتفضيل من معلم الناس ومؤدبهم.

هوامش:

(1) مَرَمَّة لمعاش: أي الاكتفاء بما هو ضروري للحياة.

(2) أراد بالبذلة: إطلاع من يثق به على أسراره, وما تكنه نفسه.

() يونق: يعجب