علوم اللغة العربية

من فنون النثر

معنى البلاغة .. من البيان والتبيين للجاحظ!

خّبَّرني أبو الزبير كاتب محمد بن حسان، وحدثني محمد بن أبان- ولا أدري كاتب من كان- قالا:

قيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل.

وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام.

وقيل للرومي: ما البلاغة؟ قال: حسن الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة.

وقيل للهندي: ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة.

وقال بعض أهل الهند: جماع البلاغة البصرُ بالحجة، والمعرفة بمواضع الفرصة. ومن البصر بالحجة، والمعرفة بمواضع الفرصة، أن تدع الافصاح بها إلى الكناية عنها، إذا كان الإفصاح أوعرَ طريقة، وربما كان الإضراب عنها صفحا أبلغ في الدرك، وأحق بالظفر.

وقال مرة: جماع البلاغة التماس حسن الموقع، والمعرفة بساعات القول، وقلة الخرق بما التبس من المعاني أو غمض، وبما شرد عليك من اللفظ أو تعذر.

ثم قال: وزين ذلك كله، وبهاؤه وحلاوته وسناؤه، أن تكون الشمائل موزونة، والألفاظ معدّلة، واللهجة نقية. فإن جامع ذلك السنّ والسمت والجمال وطول الصمت، فقد تم كل التمام، وكمل كل الكمال.

ويروي لنا سهل بن هارون مثلا عجيبا يقرّب معنى البلاغة، فيقول: لو أن رجلين خطبا أو تحدّثا، أو احتجا أو وصفا وكان أحدهما جميلا جليلا بهيًّا، ولبّاسَا نبيلا، وذا حسب شريفا، وكان الآخر قليلا قميئا، وباذّ الهيئة دميما، وخامل الذكر مجهولا، ثم كان كلامهما في مقدار واحد من البلاغة، وفي وزن واحد من الصواب، لتصدع عنهما الجمع وعامتهم تقضي للقليل الدميم على النبيل الجسيم، وللباذّ الهيئة على ذي الهيئة، ولشغلهم التعجب منه عن مساواة صاحبه به، ولصار التعجب منه سببا للعجب به، ولصار الإكثار في شأنه علة للإكثار في مدحه، لأن النفوس كانت له أحقر، ومن بيانه أيأس، ومن حسده أبعد. فإذا هجموا منه على ما لم يكونوا يحتسبونه، وظهر منه خلاف ما قدّروه، تضاعف حسن كلامه في صدورهم، وكبر في عيونهم؛ لأن الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم، وكلما كان أبعد في الوهم كان أطرف، وكلما كان أطرف كان أعجب، وكلما كان أعجب كان أبدع. وإنما ذلك كنوادر كلام الصبيان وملح المجانين، فإن ضحك السامعين من ذلك أشد، وتعجبهم به أكثر.

والناس موكلون بتعظيم الغريب، واستطراف البعيد، وليس لهم في الموجود الراهن، وفيما تحت قدرتهم من الرأي والهوى، مثل الذي زهّد الجيران في عالمهم، والأصحاب في الفائدة من صاحبهم. وعلى هذا السبيل يستطرفون القادم عليهم، ويرحلون إلى النازح عنهم، ويتركون من هو أعمّ نفعا وأكثر في وجوه العلم تصرّفا، وأخف مؤونة وأكثر فائدة. ولذلك قدّم بعض الناس الخارجيّ على العريق، والطارفَ على التلبد

وكان يقول: إذا كان الخليفة بليغا والسيّد خطيبا، فإنك تجد جمهور الناس وأكثر الخاصة فيهما على أمرين: إما رجلا يعطي كلامهما من التعظيم والتفضيل، والإكبار والتبجيل، على قدر حالهما في نفسه، وموقعهما من قلبه، وإما رجلا تعرض له التهمة لنفسه فيهما، والخوف من أن يكون تعظيمه لهما يوهمه من صواب قولهما، وبلاغة كلامهما، ما ليس عندهما حتى يفرط في الإشفاق، ويسرف في التهمة. فالأول يزيد في حقه للذي له في نفسه، والآخر ينقصه من حقه لتهمته لنفسه، ولإشفاقه من أن يكون مخدوعا في أمره.

فإذا كان الحب يعمي عن المساوئ فالبغض أيضا يعمي عن المحاسن. وليس يعرف حقائق مقادير المعاني، ومحصول حدود لطائف الأمور، إلا عالم حكيم، ومعتدل الأخلاط عليم، وإلا القويّ المنة، الوثيق العقدة، والذي لا يميل مع ما يستميل الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر.

**************

نحن أمام تحليل نفسي عميق، لا يقف بالبلاغة عند حد الألفاظ، بل يكفيه فقط أن تكون فصيحة سهلة غير نابية ولا حوشية ولا موغلة في الغموض والبُعد، ثم بعد ذلك يقع الميزان في البلاغة برعاية المقام والحال، ولا عجب أن نراهم بعد أن أكثروا في معايير الفصاحة وشروطها أن يقفوا بالبلاغة عند مراعاة مقتضى الحال وكفى.