أبواب اللغة العربية

لنعتزّ بلساننا العربي

لنعتزّ بلساننا العربي

آلاف اللغات واللهجات تنتشر في عالمنا المعاصر، بعضها قديم أصيل لم تجرفه عوامل التغيير والنسيان، وبعضها جديد قد يكون تحوّلا عن لغات أخرى نتيجة تلاقح وتفاعل مستمر بين اللغات واللهجات.

وإنه لأمر عجيب حقّا أن تخضع اللغات لهذا التطوّر، فتحيا لغات وتموت أخرى، وتنشط لغات وتنتشر وتخمد أخرى وتندثر.

واللغة العربية كانت لغة جزيرة العرب، تلك البقعة الصغيرة من العالم المعمور، والتي لم تكن تتفضل على غيرها بشيء ذي بال. كما أن العرب لم تكن لديهم حضارة مدنيّة تغري الآخرين بالنهل منها والتعويل عليها، فضلا عن جغرافيتها المنعزلة عن حضارات العالم القديم، الأمر الذي لم يفسح لها مجالا كبيرا للتأثر والتأثير.

 ثم جاء الإسلام، فصنع للقوم حضارة ذات قيم وأخلاق وعلوم ومدنيّة، فتحوّلت خامات الجاهلية المطمورة في صحراء الجزيرة إلى عجائب للبشرية تملأ الدنيا علماً وحضارة وحقّا وعدلا وإنسانية. وأصبحت العربية لغة العلم والحضارة.

ولندع (بلاسكو ايبانيز) يرسم بقلمه تلك اللوحة البديعة التي أثمرها حوار الحضارات الأندلسي، يقول: من القرن الثامن إلى القرن الخامس العشر، سوف تنشأ وتنمو أجمل وأغنى حضارة وجدت في أوروبا طيلة العصر الوسيط. فعلى حين كانت شعوب الشمال تبيد بعضها بعضا بحروب دينية، وتسلك سلوك القبائل البربرية، كان سكان إسبانيا يرقَون إلى ثلاثين مليون نسمة، وفي هذا الخضم من الناس تمتزج وتضطرب جميع الأجناس وجميع المعتقدات، بتنوع لا مُتناهٍ، ينجم عن أشد الحركات الاجتماعية.. وفي هذا الخليط الغني من الشعوب والأعراق كانت تتعايش جميع الأفكار وكافة العادات، وجميع الاكتشافات الناجزة حتى ذلك الحين على الأرض، وجميع الفنون، وجميع العلوم، وجميع الصناعات، وجميع المخترعات، وجميع المذاهب القديمة، ومن احتكاك هذه العناصر المختلفة كانت تتدفق اكتشافات جديدة وطاقات خلاقة جديدة، وكان الحرير والقطن والبن والليمون والبرتقال والرمان يأتي من الشرق مع هؤلاء الأغارب، كما يأتي كذلك السجاد والمنسوجات والتوال من القمشة الرقيقية والمعادن المرصعة (المدمشقة) والبارود. ومعهم كذلك العد العشري والجبر وعلم تحويل المعادن والكيمياء والطب وعلم الكونيات والشعر المنظوم. وكان الفلاسفة اليونان الذين يوشكون على الضياع في غياهب النسيان، يجدون إنقاذهم باللحاق بالعربي في فتوحاته، فكان أرسطو يهيمن على جامعة قرطبة الشهيرة (Blasco Ibanez. Dans L’ombre de La Cathedrale. Pp201).

ولقد كانت معركة سهل بواتييه (بلاط الشهداء) عام 732م بين المسلمين بقيادة والي الأندلس عبد الرحمن الغافقي، والفرنجة بقيادة شارل مارتل هي السبب الرئيس في وقف ذلك المد الإسلامي الحضاري إلى أوروبا، انتصر فيها شارل مارتل وقواته، وما زالت تلقى تلك المعركة تمجيدا غربياً إلى اليوم بحجة أنها أوقفت غزو البرابرة المسلمين.

ويذكر روجيه جارودي أن ذلك كان سببا في تأخر نهضة أوروبا قرونا طويلة، ويذكر موقفا تسبب في طرده من محاضرة في تونس أيام الاستعمار الفرنسي عندما ذكر مقولة لأناتول فرانس تمجد الفتح العربي لأوروبا وتتمنى أن لو كان قد اكتمل. فقد اعتبرته السلطات الفرنسية في تونس مناهضا لفرنسا.

فقد أشار الكاتب الفرنسي أناتول فرانس في كتابه (الحياة المزهرة) بسخرية إلى مغزى معركة بواتييه، الذي أراد التاريخ الغربي أن يجعل منها رمزا للمواجهة بين الشرق والغرب كما حدث في السابق في مناوشات الماراثون بين الفرس والإغريق. يقول أناتول فرانس: سأل السيد دوبواه مرة السيدة نوزيير، ما هو أسوأ يوم في التاريخ؟ لم تكن السيدة نوزيير تعرف ذلك. قال لها السيد دوبواه: إنه يوم معركة بواتييه عندما تراجع في عام 732م العلم والفن والحضارة العربية أمام بربرية الفرنجة (روجيه جارودي، الإسلام في الغرب. قرطبة عاصمة العالم والفكر).

وإلى جانب العلم والحضارة التي كانت اللغة العربية أهم سماتها، فإن القرآن الكريم (كتاب الأمة الإسلامية المقدّس) والسنة النبوية المطهّرة قد حفظا لتلك اللغة ثراءها وقواعدها ومفرداتها، بل أضافا إليها تجديدا كبيرا ينمو كل يوم على قدر نمو العلوم والدراسات القرآنية والحديثية، وأبعدا عنها كل معالم الانحطاط والاندثار، فهي باقية معهما، موجودة ما دام في الأرض مسلمون، عربا وغير عرب.

يربو تعداد المسلمين اليوم على المليارين، أي ربع العالم المعمور تقريباً، وتسعى الأغلبية الكاسحة من هؤلاء إلى تعلّم أصول دينهم وعقيدتهم من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية وعلومهما، وهو ما يؤكد على ديمومة تلك اللغة وحيويتها واستمرار عطاءاتها.

ولسوف نتناول أهم قضايا (فقه اللغة العربية وأسرارها) عبر هذه النافذة (الأعاريبية)، فاعتزّوا يا أبناء وبنات العربية بلغتكم، وأسهموا في نهضتها وسموّها، وعودتها إلى أمجادها.