أبواب اللغة العربية

لماذا نرفعُ الفاعلَ
وننصب المفعولَ؟!

لماذا نرفعُ الفاعلَ
وننصب المفعولَ؟!

من قواعد النحو المستقرة (رفع الفاعل ونصب المفعول)، حيث درج العرب على جعل هذا مرفوعا وذاك منصوبا دون تحقيق في علّة ذلك وسببه. واجتهد البعض في تأويل ذلك بأن قال بأن الضمة أثقل الحركات, والفتحة أخفّها، ولا يوجد في الجملة سوى فاعل ٍ واحد، أمّا المنصوبات فكثيرة: منها المفعول معه، والمفعول له، والمفعول المطلق، والمفعول به. من هنا اختاروا الضمة للفاعل, والفتحة لجميع المفاعيل؛ للتناسب. وقال بعضهم بأن الرفع من أشرف الحالات، يأتي ليناسب الأركان الاصلية في الجمل، وإذا علمنا أن ركني الجملة الاسمية غير المنسوخة هما المبتدأ والخبر… وجدنا أن الرفع هو ما يناسبهما شرفا ورفعة، وفي الجملة الفعلية يكون الركنان الأساسيان هما الفعل والفاعل، فالفاعل وما ينوب عنه (نائب الفاعل) ركن أساسي في الجملة الفعلية ولا تستغني عنهما فإما الفاعل أو نائبه، فناسبهما الرفع.

ومن المباحث الفريدة ما أسماه ابن جنّي في (الخصائص): تقاود السماع وتقارع الانتزاع، ويعني بـ(التقاود) هيمنة السماع على القياس وقيادته للاستنباط؛ إذ هي كثيرة مسائل اللغة التي يطّرد فيها السّماع، وكأنه قياس سماعي! وإن جاء مخالفا لاستنباطات النحاة، أو على غير منهجهم فما لا يوجد له سبب واضح.

يقول ابن جنّي: هذا الموضع كأنه أصل الخلاف الشاجر بين النحويين.

فمنها أن يكثُرَ الشيءُ فيُسألَ عن علّته؛ كرفع الفاعل، ونصب المفعول، فيذهب قوم إلى شيء، ويذهب آخرون إلى غيره. فقد وجب إذاً تأمّلُ القولين واعتمادُ أقواهما، ورفضُ صاحبه. فإن تساويا في القوّة لم يُنكَر اعتقادهما جميعا؛ فقد يكون الحكم الواحد معلولاً بعلّتين. وعلى هذا معظم قوانين العربية. وأمره واضح، فلا حاجة بنا إلى الإطالة فيه.

شِدّة اتصال الفعل بفاعله: ومنها أن يُسمع الشيء، فيستدلّ به من وجه على تصحيح شيء أو إفساد غيره، ويستدلّ به من وجه آخر على شيء غير الأوّل. وذلك كقولك: ضَربتُكَ ، وأَكرمتُهُ، ونحو ذلك مما يتصل فيه الضمير المنصوب بالضمير قبله المرفوع. فهذا موضع يمكن أن يستدلّ به على شدّة اتصال الفعل بفاعله.

(لاحظ هنا أنّه استدلّ بعلامة الضمّة على الضمير (التاء) التي وقعت فاعلا على ضمّ الفاعل، كما استدلّ بفتح (الكاف) الواقعة مفعولا على نصب المفعول، وهذا مردّه إلى سماع مطّردٍ في لغة العرب)

ووجه الدلالة منه على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن (الكاف) في نحو ضربتُكَ من الضمير المتصل، كما أن الكاف في نحو ضربكَ زيد كذلك، ونحن نرى الكاف في ضربتُكَ لم تباشر نفس الفعل، كما باشرته في نحو ضربكَ زيد، وإنما باشرت الفاعل الذى هو التاء، فلولا أن الفاعل قد مُزج بالفعل، وصيغ معه، حتى صار جزءاً من جملته، لما كانت الكاف من الضمير المتصل، ولاعتُدّت لذلك منفصلة لا متصلة. لكنهم أجروا التاء التي هي ضمير الفاعل في نحو ضربتُك ـ وإن لم تكن من نفس حروف الفعل ـ مجرى نون التوكيد التي يُبنى الفعلُ عليها، ويضمّ إليها، في نحو لأضربنّك. فكما أنّ الكاف في نحو هذا معتدّة من الضمير المتصل وإن لم تل نفس الفعل، كذلك الكاف في نحو ضربتُكَ ضمير متصل وإن لم تل نفس الفعل.

(يعني أنهم لم يستحسنوا اتصال ضميرين بالفعل إلا لأنهم اعتبروا الضمير الدال على الفاعل كأنه غير موجود لشدة اتصاله بالفعل، فكأنهما شيء واحد)

فهذا وجه الاستدلال بهذه المسألة ونحوها على شدّة اتصال الفعل بفاعله، وتصحيح القول بذلك.

وأمّا وجه إفساده شيئا آخر َ قِبَلِ أنّ فيه ردّا على من قال: إن المفعول إنما نَصبَه الفاعلُ وحده، لا الفعل وحده، ولا الفعل والفاعل جميعا.

وطريق الاستدلال بذلك أنهم إنما يعنون بقولهم (الضمير المتصل) أنه متصل بالعامل فيه لا محالة؛ ألا تراهم يقولون: إن الهاء فى نحو مررت به، ونزلت عليه، ضمير متصل، أي متصل بما عمل فيه وهو الجارّ؛ وليس لك أن تقول: إنه متصل بالفعل؛ لأن الباء كأنها جزء من الفعل؛ من حيث كانت معاقبة لأحد أجزائه المصوغة فيه، وهى همزة أفعل؛ وذلك نحو أنزلته ونزلت به، وأدخلته ودخلت به، وأخرجته وخرجت به.

وفي كتاب ابن الورّاق (علل النّحو) ما يشفي الصدر في تلك المسألة، حيث عقد باب لذلك سمّاه: بَاب الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ:

إِن قَالَ قَائِل: لم وَجب أَن يُرفعَ الْفَاعِلُ، وَيُنصبَ الْمَفْعُول بِهِ؟ فَفِي ذَلِك أوجه:

أَحدهَا: أَنهم فصلوا هَذَا الْفَصْل بَين الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ بِالنّصب، لِأَن الْفَاعِل أقل من الْمَفْعُول فِي الْكَلَام، وَذَلِكَ أَن الْفِعْل الَّذِي يتَعَدَّى يجوز أَن تعدّيَه إِلَى أَرْبَعَة أَشْيَاء، فَلَمَّا كَانَ الْفَاعِل أقل فِي الْكَلَام من الْمَفْعُول، جعلت لَهُ الْحَرَكَة الثَّقِيلَة، وَجعل لما تقدم فِي كَلَامهم الْحَرَكَة الْخَفِيفَة ليعتدلا. (وهذا ميزان سماعي مطّرد)

وَوجه آخر: وَهُوَ أَن الْفَاعِل مشبه للمبتدأ، إِذْ كَانَ هُوَ وَالْفِعْل جملَة، فَحسن عَلَيْهَا السُّكُوت، كَمَا أَن الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر جملَة يحسن عَلَيْهَا السُّكُوت، فَلَمَّا وَجب للمبتدأ أَن يكون مَرْفُوعا، حمل الْفَاعِل عَلَيْهِ.

وَوجه آخر: وَهُوَ أَن الْفَاعِل لما كَانَ فِي التَّرْتِيب أسبق من الْمَفْعُول وَجب أَن يعْطى حَرَكَة أول الْحَرْف مخرجا، كَمَا أَنه قبل الْمَفْعُول، وَإِنَّمَا وَجب الِابْتِدَاء بالفاعل على الْمَفْعُول، لِأَنَّهُ الْفِعْل مِنْهُ يحدث، فَصَارَ أَحَق بالتقديم من الْمَفْعُول، فَوَجَبَ لهَذِهِ الْعلَّة أَن يرتب قبله، وَأَيْضًا فَإِن الْفِعْل يَسْتَغْنِي بالفاعل عَن الْمَفْعُول، نَحْو: قَامَ زيد، فَصَارَ الْمَفْعُول فضلَة يذكر بعد الْفَاعِل، فَلهَذَا وَجب تَقْدِيم الْفَاعِل عَلَيْهِ.

وَوجه آخر فِي اسْتِحْقَاق الْفَاعِل الرّفْع: أَن الْفَاعِل أقوى من الْمَفْعُول، لِأَنَّهُ يحدث الْفِعْل، فَوَجَبَ أَن يعْطى أقوى الحركات، وَهُوَ الضَّم، وَالْمَفْعُول لما كَانَ أنقص أعطي أَضْعَف الحركات، وَهُوَ الْفَتْح.

فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا اقتصروا على أَن يكون الْفَاعِل مقدما على الْمَفْعُول، واستغنوا عَن الْإِعْرَاب؟

قيل لَهُ: لَو فعلوا هَذَا لضاق الْكَلَام عَلَيْهِم، وَفِي كَلَامهم الشّعْر الْمَوْزُون، وَلَا بُد أَن يَقع فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير لينتظم وَزنه، فَجعلُوا للْفَاعِل عَلامَة يعرف بهَا أَيْن وَقع، وَكَذَلِكَ الْمَفْعُول.

وهكذا ترى اهتمام أئمة النحو بدراسة العلل ليتولد لدى الدارس فقه لغة العرب ومعرفة أسباب حركاتها وأحكامها، وتبيُّن سماعيّها المطّرد من الشاذّ النادر من القياسي، وإدراك أسباب ذلك.