علوم اللغة العربية

من فنون النثر

فنّ الكتابة وصناعة المحتوى

أكسبت وسائل التواصل الكثير من الناس جرأة على تأليف الكلمات وبناء الجُمل والعبارات أو ما يُعرف بـ(صناعة المحتوى). وللأسف الشديد، يكتب الجميع، لكن الجاد الهادف يعدل مِخيَطاً في بحر خضمّا أو إبرةً رقيقة في كومة قش.

وثنائية اللفظ والمعنى هي بمثابة الجسد والروح في الكائن الحيّ، لا بقاء لأحدهما بدون صاحبه. واللفظ يشبه المظهر الخارجيّ، بينما يشبه المعنى الجوهرَ الداخليّ، وكل واحد منهما إما أن يزري بصاحبه أو يكون سببا في الثناء عليه.

وبعيداً عن عالم المعاني والأفكار، فإن التعبير الضعيف يتلف الأفكار القويّة، والتعبير القوي يرفع الأفكار الضحلة، ومن هنا كان لا بد من العناية بهما معا. وهنا سوف نتحدث عن فنّ الكتابة نفسها من حيث العناية بالكلمة والجملة والأسلوب والبيان. ولقد عني الأقدمون بالكتابة أيّما عناية، فألّفوا فيها التصانيف النافعة الماتعة، ووضعوا فيها ما يمكّن الكاتب من تخيّر ألفاظه التي تعبّر عن المعنى أحسن تعبير وأدقّه أجمله وأوفاه.

ويمكنني أن ألخّص لك مدخل فنّ الكتابة، إذا أردت أن تكون مبرِّزا فيه، في نقاط محدّدة:

  • لا بدّ أن يكون لدى الطالب لصناعة المحتوى والتأليف طبعٌ قابل لذلك ومجيبٌ إليه. وليس بالضرورة أن يميل الطبع إلى كلّ أنواع الكتابة من المنثور والمنظوم، بل قد يميل إلى كتابة القصص والروايات، أو الشعر والأراجيز، أو الخيال العلمي، أو الكتابات الدينية، أو الكتابات الاجتماعية، أو الكتابات الاقتصادية. يكفيه أن يتقن واحدا منها أو بعضها.
  • إذا يسّر الله في الإنسان الطبع القابل لمعرفة تأليف الكلام وصناعة المحتوى على الإطلاق فيحتاج حينئذ إلى تحصيل الآلات التي يخرج بها ما في القوة إلى الفعل، كما يقول أبو الفتح بن الأثير صاحب (الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور). وتنحصر آلات التأليف في قسمين:
  • القسم الأول: يشترك فيه النظم والنثر. وهو سبعة أنواع: (الأول) معرفة علم العربية من النحو والتصريف والإدغام. (الثاني) معرفة ما يحتاج إليه من اللغة. (الثالث) معرفة أمثال العرب وأيامهم. (الرابع) الاطلاع على تأليفات من تقدمه من أرباب هذه الصناعة، المنظوم منها والمنثور، والتحفظ للكثير من ذلك. (الخامس) معرفة الأحكام السلطانية في الإمامة والإمارة والقضاء وغير ذلك. (السادس) حفظ القرآن الكريم والممارسة لغرائبه، والخوض في بحور عجائبه. (السابع) حفظ ما يحتاج إليه من الأخبار الواردة عن الرسول .
  • وأما القسم الثاني فإنه يخص النظم دون النثر، وذلك علم العروض والقوافي، الذي يقام به ميزان الشعر.
  • الكتب التي يجب أن تتلمذ عليها يحددها لك عبد الرحمن بن خلدون صاحب المقدمة فيقول: وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفنّ وأركانه أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرِّد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي عليّ القالي البغدادي. وما سوى هذه الأربعة فتوابع لها وفروع عنها. والإبحار في تلك الكتب يزيد الثروة اللغوية، ويطلع الدارس على عيون الأخبار من لغة العرب، يطرّز بها كتابه ويوشّي ثيابه، ويزخرفُ خطابه.
  • الكتابة ليست هي التقعّر والتوعّر والبعد عن السهل القريب إلى الحوشيّ الغريب. وإنما المقصود أن يصل الكاتب في التعبير عن أفكاره بأقصر طريق، ويضيف عليه من جمال اللغة ما يعينه على إيضاح قصده. يقول ابن الأثير: وإياك والتوعر فإنه يسلمك إلى التعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك، ؛ فإذا حاولت أمراً بديعاً فالتمس له لفظا يناسبه، فإنه جدير بالمعنى الشريف أن يكون لفظه شريفاً. وإذا وجدت ذلك فهو الدرجة التي لا أمد وراءها، والمنزلة التي لا مطلع فوقها. وعليك بتنقيح الألفاظ وتحسينها، فإن الخطب الرائقة والأشعار البارعة، لم تعمل لإفهام المعاني فقط، لأنه لو قصد بها الإفهام فقط لكان الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيد في الأفهام، وإنما عملت الخطب والأشعار لأجل الإتيان ببداعة اللفظ، وإحكام صنعته. ولسنا نعني بذلك أن يجعل المؤلف همته مقصورة على تجويد الألفاظ، ويهمل المعاني المنوطة تحتها، وإنما المعني به أن تكون المعاني المقصودة ذات ألفاظ حسنة رائقة.
  • عليك بكتاب في الفروق اللغوية، ككتاب أبي هلال العسكري، تعرف به الفرق بين الصفة والحال والنعت والحد والرسم والاسم، كما تعرف به الفروق بين الكلمات المتقاربة مثل العلم والمعرفة، والفطنة والذكاء، والارادة والمشيئة، والغضب والسخط، والخطأ والغلط، والكمال والتمام، والحسن والجمال، والفصل والفرق، والسبب والآلة، والعام والسنة، والزمان والمدة.

هذا هو الباب الذي لا بد لكل كاتب أن يلجه، ويجدّ فيه، ويتقن فنونه، حتى يكون نظمه رائقا ومعناه مفيدا.

أعيذك بالله أيها القارئ الكريم والمتابع لمنصّتنا (منصة) مبين، أن يغيب عنك البيان والإبانة، فتسيء إلى لغتنا بنظم رديء.

إن أعيننا وأسماعنا تتأذى كل يوم بمن تتبرأ منهم لغة القرآن، فيبدلون الحروف مكان بعضها، ولا يعبؤون بأن تصبح الذال زاياً أو الثاء سيناً أو السين صاداً أو الطاء تاءً.

احفظوا حق لغة القرآن يرحمكم الله.