لا نستطيع نحن، الناطقين بالعربية، أن ندّعي للغتنا فضلا على غيرها لأسباب مجرّدة مثل أن موادّ حروفها أكثر، أو أن الاشتقاق والتصريف فيها أيسر، أو أن تشكّل مخارجها أوسع وأشمل.. اللفظ حقيقة مجرّدة وُضعت للدلالة على معنى، ولا فضيلة للّفظ في ذاته عند المقارنة بإنصاف.
بل إن اللغة الفاضلة تبلغ فضلها بما تحمله من أفكار، وبما تخلّده في بيئتها من معانٍ؛ إذ اللغة وعاءٌ يفيض بما يحتويه. ولقد دُهشتُ أيّما دهشة من صديق يعيش في إحدى البلدان الغربية، يقول لي: إن اللغة (يعني لغة البلد التي يعيش فيها) هي لغة قطّاع الطرق قديما!! يقول ذلك بالنّظر إلى ما في اللغة من ظواهر، وما في تعلّمها وإتقانها من مصاعب وعقبات.
والقرآن الكريم يحدّثنا أن لا مجال لتلك المفاضلة بين اللغات، فلم يرسل الله سبحانه رسولاً إلا بلسان قومه لا بلسان غيرهم، حتى يسهل عليه تبليغ الرسالة إليهم، ويسهل عليهم فهمها وإدراك معانيها (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) إبراهيم: 4.
وما نزل القرآن بالعربية لأجل فضلها هي، بل لأنه نزل على رسول عربي ﷺ، وفي قوم من العرب، فكان نزوله بالعربية أنسب للبلاغ والبيان والإفهام، (إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يوسف: ٢، (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فصلت: 3.
إلا أن اللسان العربي قد تشرّف بنزول القرآن به، فكان أهل العربية أوّلَ من تلقّى رسالة الرسول الخاتم ﷺ، وطولب بتبليغها والدّعوة إليها.
ولم يكن للعرب وزن ولا قيمة بين أمم الأرض في أي عصر، فرفع الله ذكرهم وأعلى شأنهم بنزول تلك الإسلام وكون الرسول المصطفى ﷺ منهم.
إنك تجد اليوم أكثر من مليار ونصف مسلم، من غير الناطقين بالعربية، يبتغون تعلّمها لا لفضيلة معرفية أو تقنية فيها، وإنما لأجل أن يتعلّموا دينهم، ويطّلعوا على ميراثه المكتوب بالعربية من القرآن الكريم والسنة المطهرة وما يتعلّق بهما من معارف وعلوم.
وإنّ مما يشعرنا، نحن أبناء العربية، بالأسى والمرارة ما وجدناه من تراجع كبير للعربية بعد أن كانت لغة العلم والحضارة عبر أحقاب متطاولة. يقول الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون (ت: 1931م) في كتابه (حضارة العرب): كلّما أمعنّا في درس حضارة الإسلام والعرب وكتبهم العلميّة واختراعاتهم وفنونهم، ظهرت لنا حقائق جديدة وآفاق واسعة، ولسرعان ما رأينا أنّ المسلمين أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطي لعلوم الأقدمين، وأنّ جامعات الغرب لم تعرف لها مدّة خمسة قرون مورداً علميّاً سوي مؤلّفاتهم، وأنّهم هم الذين مدّوا أُوروبّا مادّةً وعقلاً وأخلاقاً، وأنّ التاريخ لم يعرف أُمّة أنتجت ما أنتجوه في وقتٍ قصير، وأنّه لم يَفُقْهم قومٌ في الإبداع الفني. وتأثير هذه الحضارة عظيم في الغرب، وهي في الشرق أشدّ وأقوي، ولم يتّفق لاُمّة أُخري أن تخلِّف مثل هذه الآثار العظيمة الشأن؛ والاُمم التي كانت لها سيادة العالم، كالآشوريّين والفرس والمصريّين واليونان والرومان توارت تحت أعفار الدهر ولم تترك لنا غير أطلال دارسة، وعادت أديانها ولغاتها وفنونها لا تكون سوي ذكريات؛ والعرب وإن تواروا أيضاً، لم تزل عناصر حضارتهم، وإن شئت فقُلْ ديانتهم ولغتهم وفنونهم حيّةً، وينقاد أكثر من مائة مليون شخص (أصبحوا الآن أكثر من مليارين) مقيمين فيما بين مَرَّاكُش والهند لشريعة الرسول.
هلمّوا، يا أبناء وبنات العربية، تعلّموا لغتكم ، ويسّروا قواعدها لطالبيها، واجعلوها لغة للعلم والحضارة، وعلّموها كلّ راغب فيها من بني الإنسان، مسلمين وغير مسلمين.