أبواب اللغة العربية

سيبويه.. إمام النحاة

سيبويه.. إمام النحاة

لم تَعرِف قواعد اللغة العربيّة اهتماما بجمعها وتبويبها حتى مرور قرن ونصف من ظهور الإسلام، بل كانت لغًة محكيّة ترتبط بسليقة ابن الجزيرة العربية وفطرته وبيئته العربية الخالصة. ومع اتساع رقعة البلاد الإسلامية، واختلاط العرب بغيرهم من الأجناس والأعراق، والخوف على تزعزع قواعد لغة القرآن، أصبحت الحاجة ملحة لضبط قواعد اللغة العربية حفاظًا عليها مما يداخلها.

أضف إلى ذلك حاجة غير العرب إلى تعلّم اللغة العربية من أجل الاطلاع على تراث العربية وكتابها الخالد: القرآن الكريم، وسنة الرسول e.

مولده ونشأته: قيّض الله لهذه اللغة مجموعة من أبنائها العباقرة الأفذاذ، فصانوا علومها، وحفظوا قواعدها، ولا تزال الأجيال العربية والشعوب الإسلامية تدين لهم بالفضل وتعترف لهم بالإمامة والسبق. من هؤلاء أبو بشر عمرو بن عثمان بن قِنْبَر، لمشهور بلقبه (سِيبوَيْه). وسِيبوَيْه كلمة فارسية مركبة وتعني (رائحة التفاح).

وسيبويه فارسي الأصل ولد في حدود عام (140هـ / 756 م) على أرجح الأقوال في مدينة البيضاء ببلاد فارس، وهي أكبر مدينة في إصطخر على بعد ثمانية فراسخ من شيراز.

جاء سيبويه إلى البصرة وهو صغير (وقيل ابن أربع عشرة سنة)؛ وقد كانت (هي وجارتها الكوفة) من حواضر اللغة العربية الرائدة، وكان محبا للعلم طالبا للحديث النبوي كما هو حال أهل فارس الذين دخلوا في الإسلام في تلك الفترة، كما كان الأعاجم الذين يدخلون في الإسلام يحرصون أيضا على تعلم العربية لفهم دينهم، ولأنها لغة الدولة.

ومن المواقف الطريفة التي تنقلها كتب التراجم ما فعله سيبويه بين يدي معلمه المحدّث حماد البصري، فقد قرأ سيبويه بين يديه حديث النبي e: ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء… فقرأ سيبويه: (ليس أبو الدرداء) فقالها سيبويه بالرفع ظناً منه أن (أبو) اسم للفعل (ليس) صاح به شيخه حماد: لَحَنْتَ يا سيبويه، إنما هذا استثناء؛ فقال سيبويه: والله لأطلبن علمًا لا يلحنني معه أحد.

شيوخه: تتلمذ سيبويه على عديد من الشيوخ والعلماء، نخص منهم أربعة من علماء اللغة، أولهم: عبقري العربية وإمامها الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو أكثرهم تأثيرًا فيه، فقد روى عنه سيبويه في الكتاب 522 مرة، وهو قدر لم يروِ مثله ولا قريبًا منه عن أحد من أساتذته، وهو ما يجسد خصوصية الأستاذية التي تفرد بها الخليل بن أحمد رحمه الله، دون سائر أساتذة سيبويه، وثانيهم: أبو الخطاب الأخفش، وثالثهم: عيسى بن عمرو، ورابعهم: أبو زيد النحوي.

المؤامرة عليه: بقي سيبويه في البصرة منذ دخلها إلى أن صار فيها الإمام المقدّم، وبلغت شهرته الآفاق، ومن القصص التي تنقلها المصادر عنه تلك المناظرة بينه وبين الكسائي إمام الكوفيين، إذ دُعي إلى بغداد حاضرة الخلافة آنذاك من قبل البارزين فيها والعلماء لمناظرة بين كبيري النحاة: سيبويه ممثلاً لمذهب البصريين والكسائي عن الكوفيين، وأُعلن نبأ المناظرة، وسمع عنها القريب والبعيد، ولكن الأمر كان قد دُبِّر بليل، فجاء الكسائي وفي صحبته جماعة من الأعراب، فقال لصاحبه سيبويه: تسألني أو أسألك؟ فقال سيبويه: بل تسألني أنت. قال الكسائي: كيف تقول في: قد كنت أحسب أن العقرب أشد لسعة من الزُّنْبُور، فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها بعينها؟ ثم سأله عن مسائل أخرى من نفس القبيل نحو: خرجت فإذا عبد الله القائمُ أو القائمَ؟ فقال سيبويه في ذلك كله بالرفع، وأجاز الكسائي الرفع والنصب، فأنكر سيبويه قوله؛ فقال يحيى بن خالد، وقد كان وزيرًا للرشيد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما؟ وهنا انبرى الكسائي منتهزًا الفرصة: الأعراب، وهاهم أولاء بالباب؛ فأمر يحيى فأدخل منهم من كان حاضرًا، وهنا تظهر خيوط المؤامرة وتأتي بثمارها؛ فقالوا بقول الكسائي؛ فانقطع سيبويه واستكان، وانصرف الناس يتحدثون بهذه الهزيمة التي مُني بها إمام البصريين.

قرر سيبويه أن يرحل عن البصرة والعراق كلها؛ فأزمع الرحيل إلى خراسان. وكأنما كان يسير إلى نهايته؛ فقد أصابه المرض في طريق خراسان، ولقي ربه وهو ما زال في ريعان الشباب، لم يتجاوز عمره الأربعين، وذلك سنة (180هـ/ 796م) على أرجح الأقوال.

تلاميذه: من الصعوبة بمكان أن نحصي تلاميذ سيبويه، خاصة لو وضعنا في اعتبارنا أن كل النحاة الذين جاءوا بعده غاصوا في بحور لغتنا الجميلة عبر كتابه، ولكن لو تعرضنا للتلاميذ بالمعنى الحرفي فإننا نقول: برز من بين تلاميذ سيبويه عالمان جليلان هما: الأخفش الأوسط (أبو الحسن سعيد بن مسعدة) وقطرب (أبو محمد بن المستنير المصري) صاحب المنظومة الشهيرة المعروفة بمثلّث قطرب.

الكتاب: وضع سيبويه كل جهوده في علمي النحو والصرف (قواعد اللغة العربية) في كتاب لم يُعثر له على اسم ولا مقدّمة ولا خاتمة، وأغلب الظنّ أن سيبويه لم يدقّق كتابه لأن الموت باغته في ريعان الشباب، فأخرجه تلميذه أبو الحسن الأخفش إلى الوجود دون اسم؛ عرفانًا بفضل أستاذه وعلمه وخدمةً للغة القرآن التي عاش من أجلها أستاذه؛ وأطلق عليه العلماء اسم (الكتاب). 

رحم الله عالمنا الجليل وأجزل مثوبته.

وهي دعوة لك عزيزي القارئ أن تحيي آثار سيبويه، بقراءة كتابه واستخلاص منهجه، ذاك المنهج الذي دار في فلكه كل علماء العربية قرونا طويلة، حتى قال بعضهم أن سيبويه كان سببا في تعطّل الدرس النحوي والصرفي؛ لأن العلماء لم يجدوا من بعده زيادة ذات بال لمستزيد.