أبواب اللغة العربية

دستور الأخلاق في القرآن

دستور الأخلاق في القرآن

الكتاب الذي قال مترجمه: أرجو أن ألقى الله يوم القيامة وفي يدي نسخة منه!!

قال المترجم، وهو الأستاذ بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، الدكتور عبد الصبور شاهين رحمه الله: لقد استغرقت مني ترجمة هذا الكتاب من الفرنسية إلى العربية خمس سنوات، وإني لأرجو من الله أن ألقاه يوم القيامة وفي يدي نسخة من هذا الكتاب!

هذا الكتاب هو رسالة الدكتوراة المعنونة بـ(دستور الأخلاق في القرآن) للدكتور محمد عبد الله دراز الأزهري الفذّ وصاحب (النبأ العظيم) ,و(دستور الأخلاق في القرآن) والكثير من الدراسات القرآنية الرصينة.

في إحدى قاعات جامعة السوربون الفرنسية في يوم 15/12/1947م وأمام لجنة مكونة من خمسة أساتذة من السوربون والكوليج دي فرانس هم ماسينيون وليفى بروفنسال ولوسن وفالون وفوكونيه، دارت مناقشة الرسالة التي استغرقت أربع ساعات كاملة .. وكانت القاعة مليئة بجمهور المتفرجين، وكان الشيخ حريصا على ألا يحضرها أحد من أسرته أسوة بالتقاليد الشرقية الريفية، فكان وحيدا فريدا بين جمهور الفرنسيين.

يقول الدكتور عبد الصبور شاهين: والحق أن المؤلف – فيما أرى- لم يكن يكتب هذا العمل على أنه مجرد وسيلة إلى هدف، هو نيل إجازة دكتوراه الدولة في الفلسفة من السوربون، فقد كان بوسعه أن يحقق هدفه بأقل مما بذل من جهد، ولكنه كان يحمل في ضميره رسالة هذا الدين الداعية إلى السلام في فترة كانت أوروبا خلالها بل العالم كله من حوله كتلة ملتهبة من الصراع والدمار.

لقد فهم أحد المناقشين أهداف الشيخ من رسالته، ولعله أراد أن يقطع ذلك التأثر الواضح لدى الجماهير بما عرضه الدكتور دراز أثناء المناقشة فقال: إن الرسالة تبرز أن القرآن كتاب سماوي لا يتحيز لأمة ولا دين خاص، إنما هو دعوة عالمية وديانة للبشر كافة .. إن هذا الكلام مقنع لدرجة أخشى معها التأثير على نفسية المستمعين فتحولهم عن دينهم، ثم توجه إلى الشيخ قائلا: إنك – ولا شك – تريد أن تجذبنا نحو الدين الإسلامي.. أليس كذلك؟؟

وعلم فلسفة الأخلاق – أو النظرية الأخلاقية – هو علم غربي المنشأ، اكتمل بصورته المعروفة المشتملة على الإلزام والمسئولية والدوافع والجهد والجزاء على يد الفلاسفة الغربيين في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.

ولم يعن هؤلاء الفلاسفة – في دراستهم لعلم الأخلاق –  بالأخلاق القرآنية؛ إذ تبدأ مؤلفاتهم في علم الأخلاق العام بذكر المبادئ الأخلاقية في الوثنية الإغريقية، ثم أديان اليهودية والمسيحية، ثم تنقلنا بغتة إلى العصور الحديثة في أوروبا مغفلة كل ما يمس الأخلاق القرآنية أو النظرية الأخلاقية في القرآن، وهي لا شك تتفق مع النظرة العنصرية التي نقلها أغلب المستشرقين الغربيين عن الإسلام وحضارته.

أما المحاولات التي تمت خلال القرن التاسع عشر من أجل استخراج المبادئ الأخلاقية من القرآن فقد كان إطارها في الغالب محدودا، كما كان مضمونها بعيدا عن المطابقة الدقيقة للنظرية القرآنية الحقة، فمن حيث الإطار نجدهم قد أغفلوا الجانب النظري من المسألة، ومن حيث عيوب المضمون نجد مرجعها إما إلى ترجمات غير صحيحة وإما إلى تلخيص سيئ، وإما إلى الأمرين معا.

ولقد رتب الدكتور دراز حديثه عن هذا القانون الأخلاقي على نفس ترتيب العناصر الرئيسية في علم الأخلاق العام عند الغربيين، فبدأ بالجانب النظري، وتلاه بالأخلاق العملية ورتبها من وجهة نظره ترتيبا بديعاً.

وفي الجانب النظري كانت صعوبة البحث تكمن في أن النصوص المتعلقة بالنظرية الأخلاقية في القرآن ليست بالكثرة والوضوح اللذين تمتاز بهما الأحكام العملية، وهذا الأمر – في نظر الشيخ دراز – طبيعي؛ إذ ليس القرآن ثمرة للفلسفة التي تقوم على عمل فكري منطقي معتمد على ومضات الذهن تسبق المقدمات فيه النتائج، بل هو ضوء الوحي الذي يغمر النفس دون بحث أو توقع، ويقدم لها جملة من المعارف لا تسبق المقدمات فيها نتيجتها، وكذلك لا يتبع القرآن طرائق التعليم التي يتبعها الفلاسفة، وهي طرائق المنهج العقلي (التعريف، والتقسيم، والبرهنة، والاعتراضات، والإجابات)، ولكن للقرآن منهجه الذي يتوجه إلى النفس بأكملها، إلى العقل والقلب معاً.

ولنأخذ ومضتين من ومضات هذا السفر العظيم يتجلّى فيهما بعض خصائص الكتاب وصاحبه. يتحدث الشيخ دراز عن الركن الأول لنظرية الأخلاق (الإلزام الخلقي)، أو ما هي الجهة التي تلزمنا بالأخلاق؟ فيقول:

وقد كشف الفيلسوف الفرنسي (هنري برجسون) في تحليله العميق لقضية الإلزام الأخلاقي عن مصدرين لهذا الإلزام، أحدهما هو قوة الضغط الاجتماعي، والثاني قوة الجذب ذي الرحابة الإنسانية المستمدة من العون الإلهي، وهي قوة أوسع مدى من سابقتها.

وينقد الدكتور دراز رأي “برجسون”، وخاصة في إغفاله للعامل الثالث الأعمق جذورا في الفطرة الإنسانية، وهو العنصر الفردي.

كما أن الضغط الاجتماعي قد يكون نوعا من الإرهاب والخضوع لا مسوغ له، والنظر إلى قيمة عليا (قوة الجذب) تظل محكومة بنوع من الإحساس بالجمال، مهما بلغ من النبل فلن يكون مبدأ أخلاقيا.

ومن هنا نرى القرآن يقف أمام هذين العدوين للأخلاقية: اتباع الهوى دون تفكير (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) ص: 26، والانقياد الأعمى (قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) الزخرف: 22.

ويعرض الدكتور دراز نظرية (كانط) في مصادر الإلزام الخلقي، حيث يرى أن الإلزام الخلقي مصدره ملكة عليا في النفس الإنسانية مستقلة عن الشهوة وعن العالم الخارجي معاً، ويرى الشيخ دراز أن هذه النظرية – بتخليصها من جميع شوائبها – تتفق تماما مع النظرية المستخلصة من القرآن.

فالقرآن يعلمنا أن النفس الإنسانية قد تلقت في تكوينها الأولي الإحساس بالخير والشر (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) الشمس: 7، 8، وكما وهب الخالق الإنسان ملكة اللغة والحواس الظاهرة، فإنه زوده أيضا ببصيرة أخلاقية (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) القيامة: 14، 15، كما هدى الإنسان طريقي الفضيلة والرذيلة (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ . وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ . وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) البلد: 8- 10 .. حقا (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) يوسف: 53، ولكن الإنسان قادر على أن يحكم أهواءه (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) النازعات: 40 ، 41.

وهكذا يتضح أن في الإنسان قوة باطنة لا تقتصر على نصحه وهدايته فحسب، بل إنها توجه إليه بالمعنى الصريح أوامر بأن يفعل أو لا يفعل.

ويرى الشيخ أن هذه السلطة التي تدعي السيطرة على قدراتنا الدنيا، هي العقل، ذلك الجانب الوضئ من النفس، والقرآن يعني عناية كبيرة بإيقاظ أشرف المشاعر داخل النفس وأزكاها، بيد أنه لم يحرك هذه المشاعر إلا تحت رقابة عقلنا.

والومضة الثانية تتحدث عن ركن (الجهد) في النظرية الأخلاقية، يقول الدكتور دراز: والواقع أن المدد الوحيد للإنسان لكي يصل إلى غاياته، وواجبه الوحيد – في الوقت نفسه – منحصر في أن يستعمل قواه المعنوية والمادية القادرة على هدايته إلى هذه الغايات، سواء أكانت الغاية أن يتخذ قرارا أخلاقيا، أو أن ينفذه، وسواء كان يريد إصلاح خلة باطنية أو تزكية نية.

لقد أعطيت النفس الإنسانية ملكات كثيرة، وهي دائما قابلة للترقي والتردي، للازدهار والذبول، بتأثير إرادتها الخاصة (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) الشمس: 9، 10… ومن ثم تتبع الضرورة الأخلاقية أن يعمل الإنسان، وأن يتحمل مسؤوليته (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) التوبة: 105.

وهناك موقفان فلسفيان يصرحان بميلهما إلى المبالغة في تقدير الجهد الأخلاقي، وهما إن لم يستلهما مبدأ الجهد بوصفه قيمة في ذاته، فقد جعلا له على الأقل معادلا عمليا.

الموقف الأول يتحدث على مستوى الوجود، وهو يتمثل في القول بأن النفس الإنسانية عاجزة عن الخضوع للقانون الأخلاقي برضاها الكامل وبدافع الحب، ولما كان الانتصار على الشر يكلفنا دائما تضحية، فإن الكفاح يصبح دائما شرطا في الفضيلة، والوسيلة الوحيدة لاكتساب السلوك الحسن.

والموقف الثاني يقلل من قيمة العمل والثواب، ولكنه لا يذهب إلى حد الإنكار  المطلق لقدرة الإنسان على أن يؤدي واجبا معينا عن طواعية وهمة.

ويعتقد الشيخ دراز أن العثور على مفتاح الحل في التفرقة التي أثبتها القرآن بين نوعين من الجهد، أحدهما يطلق عليه جهد المدافعة، والآخر هو جهد الإبداع.

جهد المدافعة هو تلك العملية التي نضع فيها – في مواجهة الميول الخبيثة التي تحثنا على الشر – قوى مقاومة قادرة على دفع تأثيرها، وهذا الجهد يحقق الانتصار أحيانا، أو يفشل في تحقيق المآرب المأمولة أحيانا أخرى (فَأَمَّا مَنْ طَغَى . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) النازعات:37- 41. ويفرض الإسلام عبادات مالية وبدنية من أعظم أهدافها تحطيم عبودية الجوارح، ويوجد لدى الإنسان قدر من الانبعاث التلقائي فيما يصدر عنه من قرارات خيّرة.

وكلما ترقت النفس في مدارج كمالها بجهد قوي، كان تأثير قوى الشر عليها ضعيفا، فهو مجرد ظلام خفيف ناشئ عن ظل سحابة عابرة لا تلبث أن تنقشع (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) الأعراف: 201.

والجهد المبدع هو حالة لا يدافع فيها المرء حملات النفس والشيطان فحسب، بل يستبق الحسنات والخيرات، ويهاجم أعداء الخير والسعادة.

فما ينبغي أن نكل أمر تحديد موضوع إرادتنا إلى تصاريف الطبيعة الخارجية، ولا إلى حركات فطرتنا الداخلية، وليس دورنا الأخلاقي أن نقف متفرجين على ما يحدث أمامنا، أو في داخلنا، ولا أن ننقاد انقيادا آليا للحواس أو العواطف الجامحة، بل ينبغي – على العكس – أن نسمو فوق جميع الاعتبارات الظاهرة والباطنة، وأن ننظر من علٍ إلى كل الحلول الممكنة لنجري اختيارنا واضحا جليا، وذلك – في الواقع – هو الجانب الذي يختص بشخص الإنسان كعامل حر ومستقل نسبيا.

ويؤكد القرآن أن فكرة الترقي إلى الكمال في الجهد هي وسط بين طرفين هما الانهماك غير المعقول والجهد المتوسط، فبعد أن يعلن القرآن أفضلية المجاهد – ليحثّ الجميع على طلب الأفضل – يجعل صاحب الدرجة الأقل صاحب فضل أيضا، يقول سبحانه (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) النساء: 95.

وخلاصة القول أن العناصر الثلاثة التي يتكون منها الجهد المبدع – بأكمل معاني الكلمة – هي الاختيار الإرادي والاختيار الصالح والاختيار الأفضل، والعنصر الأول هو روح الأخلاق بعامة، والثاني يقدم إلى كل من الأخلاق الخاصة نوعيتها المختلفة مع  مراعاة القواعد الخاصة بكل نوع، وأما الثالث فهو يصل أخيرا لإتمام عمل الاثنين وإكماله.

وللقارئ أن يتخيّل أن ذلك الحشد من الآيات القرآنية قد ترجمه الشيخ بنفسه إلى الفرنسية، وسلك لنفسه طريقا وعرا ليبلغ رسالة الإسلام بنقائها وسموّها إلى العالمين.

جزى الله صاحب دستور الأخلاق ومترجمه إلى العربية عن أمتنا وعن العربية خير الجزاء.

وأنت مدعوّ يا فتى الأعاريب عن التنقيب في أغوار هذا السفر العظيم تستخرج كنوزه لتزداد اعتزازا بدينك وأخلاقك وعروبتك.