أبواب اللغة العربية

حضارة العرب غوستاف لوبون

حضارة العرب غوستاف لوبون

المرأة في الشرق (من كتاب حضارة العرب – غوستاف لوبون)

ترجمة شيخ المترجمين العرب عادل زعيتر رحمه الله

الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون غوستاف لوبون (1841 – 1931م) هو واحد من أشهر المؤرخين الذين اهتموا بدراسة الحضارات الشرقية والعربية والإسلامية، وأحد المنصفين القلائل الذين تعاملوا مع الحضارة الإسلامية بحياد كبير.

وقد تجوّل لوبون في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا، وكان له اهتمام بالطب النفسي وسلوكيات الشعوب، مما جعل من أبحاثه مرجعًا أساسيًّا في علم النفس، وصبغ على شخصيته ذلك الجانب النزيه في التعامل مع التاريخ.

ظهر كتابه (حضارة العرب) في وقت كان الهياج والتعصب للغرب هو السمت الغالب على الكتابات الاستشراقية، فلم يَسِر على نهج مؤرخي أوروبا، بل أقرَّ أن المسلمين هم مَن مدَّنوا أوروبا، وكانت سياحته في الشرق مؤثرة في كتاباته، فجاءت تقريرا ميدانيا مؤصلا، لا ترّهات عقل متشنّج.

ولنأخذ بعض مقتطفات من تناوله للمرأة العربية المسلمة في فصل بعنوان (المرأة في الشرق) يقول:

تعدد الزوجات

لا نذكر نظاماً أنحَى الأوربيون عليه باللائمة كمبدأ تعدد الزوجات، كما أننا لا نذكر نظاماً أخطأ الأوربيون في إدراكه كذلك المبدأ، وذلك أن أكثر مؤرخي أوربة اتِّزاناً يرون أن مبدأ تعدد الزوجات حجرُ الزاوية في الإسلام، وأنه سبب انتشار القرآن، وأنه علة انحطاط الشرقيين، ونشأت عن هذه المزاعم الغريبة، على العموم، أصوات سُخطٍ رحمةً بأولئك البائسات المكدَّسات في دوائر الحريم، واللائي يَرقُبُهن خِصْيَانٌ غِلاظ، ويُقتَلْن حينما يَكْرَهُهن سادتهن.

ذلك الوصف مخالفٌ للحق، وأرجو أن يَثْبُتَ عند القارئ الذي يقرأ هذا الفصل، بعد أن يطرحَ عنه أوهامَه الأوربية جانباً، أن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيبٌ يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطاً، ويمنح المرأة احتراماً وسعادة لا تراهما في أوربة.

وأقول، قبل إثبات ذلك: إن مبدأ تعدد الزوجات ليس خاصاً بالإسلام، فقد عَرَفَه اليهود والفرس والعرب وغيرهم من أمم الشرق قبل ظهور محمد، ولم ترَ الأمم التي اعتنقت الإسلام فيه غُنْماً جديداً إذن، ولا نعتقد، مع ذلك، وجود ديانة قوية تستطيع أن تُحَوِّل الطبائع فتبتدع، أو تمنع، مثل ذلك المبدأ الذي هو وليد جَو الشرقيين وعروقهم وطُرُق حياتهم.

وتأثير الجو والعِرق من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى إيضاح كبير، وبما أن تركيب المرأة الجثماني وأمومتها وأمراضها … إلخ. مما يُكرهها على الابتعاد عن زوجها في الغالب، وبما أن التَأَيُّمَ المؤقت مما يتعذر في جو الشرق، ولا يلائم مزاج الشرقيين، كان مبدأ تعدد الزوجات ضربَةَ لازب.

وفي الغرب، حيث الجو والمزاج أقل هيمنةً، لم يكن مبدأ الاقتصار على زوجة واحدة في غير القوانين، لا في الطبائع حيث يَنْدُر.

ولا أرى سبباً لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبةً من مبدأ تعدد الزوجات السِّري عند الأوربيين، وأبُصِر العكس فأرى ما يجعله أسنى منه، وبهذا ندرك مغزى تعجب الشرقيين الذين يزورون مدننا الكبيرة من احتجاجنا عليهم ونظرِهم إلى هذا الاحتجاج شَزْراً.

ومن السهل أن ندرك علل إقرار الشرائع الشرقية لمبدأ تعدد الزوجات بعد أن نشأ عن العوامل الجثمانية المذكورة آنفاً، فحُبُّ الشرقيين الجمُّ لكثرة الأولاد، وميلهم الشديد إلى حياة الأسرة، وخُلق الإنصاف الذي يردعهم عن ترك المرأة غير الشرعية بعد أن يَكرَهوها، خلافاً لما يقع في أوربة، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة، كلها أمور تَحفِّز الشرائع إلى تأييد العادات التي هي وليدة الطبائع، وإذا نظرنا إلى أن القوانين لا تلبث أن تطابق العادات كان لنا أن نقول: إن تعدد الزوجات غير الشرعي في أوربة لا يلبث أن تؤيده القوانين.

ومن أسباب تعدد الزوجات التي لم أذكرها بعدُ ما هو خاص ببعض الطبقات، وما يفيد بيانه للدلالة على سيطرته في بعض البلدان، حتى إن أكثر الأوربيين تديناً اضطروا إلى الاعتراف بضرورته حينما أنعموا النظر في الشعوب التي ظهر فيها مبدأ تعدد الزوجات.

تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق

لم يقتصر الإسلام على إقرار مبدأ تعدد الزوجات الذي كان موجوداً قبل ظهوره، بل كان ذا تأثير عظيم في حال المرأة في الشرق، والإسلامُ قد رفع حال المرأة الاجتماعيِّ وشأنَها رفعاً عظيماً بدلاً من خفضها خلافاً للمزاعم المكررة على غير هدى، والقرآن قد منح المرأة حقوقًا إرثية أحسن مما في أكثر قوانيننا الأوربية كما أثبتُّ ذلك حينما بحثتُ في حقوق الإرث عند العرب، أَجَلْ، أباح القرآن الطلاق كما أباحته قوانين أوربة التي قالت به، ولكنه اشترط أن يكون (وللمطلقات متاعٌ بالمعروف) البقرة: 241. وأحسن طريقٍ لإدراك تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق هو أن نبحث في حالهنَّ قبل القرآن وبعده.

يمكننا استجلاء الحال التي كانت عليها النساء قبل ظهور النبي من التحريم الآتي الذي جاء في القرآن: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمُّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأخَ وَبَنَاتُ الْأخُتِ وَأمُّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأمُّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأخُتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إنَّ للهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) النساء: 23.

وتحريم مثل هذا، وإن كان لا يدل على رقي عادات الأمة التي اقتضته، يهُونُ أمر دلالته عندما نعلم أن ما أشار إليه من العادات كان شائعًا بين جميع الأمم السَّامِيَّة، فالتحريم الذي جاء في التوراة (الإصحاح الثامن عشر من سِفرِ اللاويين ٦ – ١٨) مثل ما جاء في القرآن، ويشير إلى أمور أشد خطراً مما أشار إليه القرآن.

وكان الرجال قبل ظهور مُحَمَّد يَعُدُّون منزلة النساء متوسطةً بين الأنعام والإنسان من بعض الوجوه، أي أداةً للاستيلاد والخدمة، وكانوا يَعُدُّون ولادة البنات مصيبة، وشاعت عادة الوأد، وصار لا يُجادَل فيها كما لو كانت البنات جِرَاءً يُقذف بها في الماء، ويمكننا أن نتمثَّل عادة الوأد عند العرب من المحاورة الآتية التي وقعت بين رئيس بني تميم قيسٍ ومُحَمَّد، حينما رأى قيسٌ محمدًا يضع إحدى بناته على ركبتيه، والتي رواها كوسان دوبرسفال:

قيس: مَن هذه الشاة التي تَشَمُّها؟

مُحَمَّد: ابنتي.

قيس: ولله كان لي بناتٌ كثيرٌ، فَوَأَدْتهُنَّ من غير أن أشمَّ واحدةً منهن.

مُحَمَّد (صارخاً): ويلٌ لك، يظهر أن لله نزع الرحمة من قلبك، فلا تَعرِف أطيبَ النِّعَم التي مَنَّ لله بها على الإنسان.

وإذا أردنا أن نعلم درجة تأثير القرآن في أمر النساء وجب علينا أن ننظر إليهنَّ أيام ازدهار حضارة العرب، وقد ظهر مما قَصَّه المؤرخون، فنذكره فيما بعد، أنه كان لهن من الشأن ما اتفق لأخَوَاتهن حديثاً في أوربة، وذلك حين انتشار فروسية عرب الأندلس وظُرْفِهم.

إن الأوربيين أخذوا عن العرب مبادئ الفروسية وما اقتضته من احترام المرأة، والإسلام، إذن، لا النصرانية، هو الذي رفع المرأة من الدَّرك الأسفل الذي كانت فيه، وذلك خلافاً للاعتقاد الشائع، وإذا نظرتَ إلى سنيورات نصارى الدور الأول من القرون الوسطى رأيتَهم لم يحملوا شيئاً من الحُرمة للنساء، وإذا تصفحت كُتُب تاريخ ذلك الزمن وجدتَ ما يُزيل كلَّ شك في هذا الأمر، وعلمت أن رجال عصر الإقطاع كانوا غِلاظاً نحو النساء قبل أن يتعلم النصارى من العرب أمر معاملتهنَّ بالحسنى، ومن ذلك ما جاء في تاريخ غاران لُولُوهِيرَان عن معاملة النساء في عصر شارلمان وعن معاملة شارلمان نفسه لهنَّ كما يأتي: (انقضَّ القيصر شارلمان على أخته في أثناء جدال، وأخذ بشعرها وضربها ضرباً مبرِّحاً، وكسر بقفَّازه الحديدي ثلاثاً من أسنانها)، فلو حدث مثل هذا الجدل مع سائق عربةٍ في الوقت الحاضر لبدا هذا السائق أرَقَّ منه لا ريب.