لمْ يكُنْ وصْلُكَ إلاّ حُلُما … في الكَرَى أو خِلسَةَ المُخْتَلِسِ
إذْ يقودُ الدّهْرُ أشْتاتَ المُنَى … تنْقُلُ الخَطْوَ علَى ما يُرْسَمُ
زُفَراً بيْنَ فُرادَى وثُنَى … مثْلَما يدْعو الوفودَ الموْسِمُ
والحَيا قدْ جلّلَ الرّوضَ سَنا … فثُغورُ الزّهْرِ فيهِ تبْسِمُ
ورَوَى النّعْمانُ عنْ ماءِ السّما … كيْفَ يرْوي مالِكٌ عنْ أنسِ
فكَساهُ الحُسْنُ ثوْباً مُعْلَما … يزْدَهي منْهُ بأبْهَى ملْبَسِ
مقطع تترقرق العذوبة من بين أبياته، ويسمى موشّحة، وشاعره هو لسان الدين بن الخطيب الغرناطي الأندلسي.
الموشّحات فنّ أندلسي خالص، الموشحات جمع موشحة، وهى مشتقة من الوشاح وهو في اللغة: خيطان من لؤلؤ وجوهر منظومان يخالف بينهما معطوف أحدهما على الآخر.
والموشّحة لون من الشعر له نمطه العروضي الخاص؛ إذ تتألف الموشحة من قفل يسمى مركزا، وتتعدد أجزاؤه أو شطوره، ويليه غصن متعدد الأجزاء أو الشطور، وبينما تتحد أجزاء الأقفال التالية مع الأجزاء المقابلة لها في القفل الأول سواء في الوزن أو القافية تختلف أجزاء الأغصان التالية مع أجزاء الغصن الأول في قافيته، فلكل غصن قافية تتحد في أجزائه أو شطوره مع اتفاق أجزاء الأغصان جميعا في الوزن. والموشّحة فنّ غنائي، ولعل هذا كان طابعا للأندلس لاتساع موجة الغناء والموسيقى منذ زرياب في عهد عبد الرحمن الأوسط.
ومن أشهر شعراء الموشّحات ابن عبادة القزّاز، وقد وصفه ابن بسام بقوله عنه: من مشاهير الأدباء الشعراء وأكثر ما ذكر اسمه وحفظ نظمه في أوزان الموشحات التي كثر استعمالها عند أهل الأندلس، وهو ممن نسج على منوال ذلك الطراز، ورَقَمَ ديباجه، ورصّع تاجه، وكلامه نازل في المديح، أما ألفاظه في التوشيح فشاهدة له بالتبريز والشفوف. (تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف)
ونكمل هنا باقي الموشّح الذي صدّرنا به المقالة لتكتمل عندك يا قارئ الأعاريب صورة الموشح وتقنياته وأسلوبه.
ورَوَى النّعْمانُ عنْ ماءِ السّما … كيْفَ يرْوي مالِكٌ عنْ أنسِ
فكَساهُ الحُسْنُ ثوْباً مُعْلَما … يزْدَهي منْهُ بأبْهَى ملْبَسِ
في لَيالٍ كتَمَتْ سرَّ الهَوى … بالدُّجَى لوْلا شُموسُ الغُرَرِ
مالَ نجْمُ الكأسِ فيها وهَوى … مُسْتَقيمَ السّيْرِ سعْدَ الأثَرِ
وطَرٌ ما فيهِ منْ عيْبٍ سَوَى … أنّهُ مرّ كلَمْحِ البصَرِ
حينَ لذّ الأنْسُ مَع حُلْوِ اللّمَى … هجَمَ الصُّبْحُ هُجومَ الحرَسِ
غارَتِ الشُّهْبُ بِنا أو ربّما … أثّرَتْ فيها عُيونُ النّرْجِسِ
أيُّ شيءٍ لامرِئٍ قدْ خلَصا … فيكونُ الرّوضُ قد مُكِّنَ فيهْ
تنْهَبُ الأزْهارُ فيهِ الفُرَصا … أمِنَتْ منْ مَكْرِهِ ما تتّقيهْ
فإذا الماءُ تَناجَى والحَصَى … وخَلا كُلُّ خَليلٍ بأخيهْ
تبْصِرُ الورْدَ غَيوراً برِما … يكْتَسي منْ غيْظِهِ ما يكْتَسي
وتَرى الآسَ لَبيباً فهِما … يسْرِقُ السّمْعَ بأذْنَيْ فرَسِ
يا أُهَيْلَ الحيّ منْ وادِي الغضا … وبقلْبي مسْكَنٌ أنْتُمْ بهِ
ضاقَ عْنْ وجْدي بكُمْ رحْبُ الفَضا … لا أبالِي شرْقُهُ منْ غَرْبِهِ
فأعِيدوا عهْدَ أنْسٍ قدْ مضَى … تُعْتِقوا عانِيكُمُ منْ كرْبِهِ