أبواب اللغة العربية

الجُرذُ والسنّور (الفأر والقط) … الجزء الأول

الجُرذُ والسنّور (الفأر والقط) … الجزء الأول

من كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفّع

قال دَبشَليم مَلك الهند لبَيْدَبا الفيلسوف: اضرِب لي مَثَلَ رجلٍ كثُر عدوُّه، وحاصروه من كل جانب، فأشرف على الهَلَكة، فالتمس المخرج بموالاة بعض العدوِّ ومصالحته، فسلِم ممِّا يتخوَّف، ووفّى لمن صالح منهم، فأخبرني عن موضع الصلح وكيف يُلتَمس ذلك؟

قال الفيلسوف: من أمثال ذلك مَثَلُ الجُرَذ والسِّنَّور اللذين اصطلحا حين كان ذلك الرأي لهما صوابًا، وكان في صلحهما صلاحهما جميعًا ونجاتهما من الورطة الشديدة، قال الملك: وكيف كان ذلك؟

قال الفيلسوف: زعموا أنه كان بأرض سَرَنديب شجرة من الدَّوح، وكان في أصلها جُحر لجُرَذ يُقال له فريدون، وجُحر لسِنَّور يُسمَّى رومي،  وكان الصيَّادون ربما اجتازوا بذلك المكان يلتمسون صيدَ الوحش، وأنَّ صيَّادًا مرَّ ونصب حبالَه ذات يوم فوقع فيها رومي، وخرج الجرذ يبتغي ما يأكل وهو مع ذلك حَذِرٌ يلتفت وينظر، فلمَّا رأى السنَّوْر مقتنَصًا في الحبال فرح، ثم التفت خلفه فأبصر (ابن عِرس) قد تبعه، فنظر فوقه فإذا (بومة) على شجرةٍ ترصُده، فخاف إن انصرف راجعًا أن يثب عليه ابن عِرس، وإن ذهب يمينًا أو شمالًا أخذته البومة، وإن تقدَّم فالسنَّوْر أمامه، فقال الجرذ: هذا بلاءٌ قد اكتنفني، وشرور قد تظاهرت عليَّ، ولا مَفْزع لي إلَّا إلى عقلي وحيلتي، فلا يكونَنَّ الدهَش من شأني، ولا يَذهبنَّ قلبي شَعاعًا؛ فإنَّ العاقل لا يتفرَّق عليه رأيه، ولا يعزُبُ عنه عقله على حال، وإنما عقول ذوي الرأي كالبحر الذي لا يُدرَك غَورُه، ولا يبلغ البلاء من ذي الرأي مجهودَ عقله فيُهلِكه، ولا الرخاء ينبغي له أن يبلغ منه مبلغًا يُبطره ويُسكِره ويُعمي عليه أمره.

ثم قال: لا أرى حيلةً أمثَلَ من التماس صلح السنَّوْر؛ فإنَّ السنَّوْر قد نزل به بلاء، ولعلِّي أقدر على صلاحه، ولعلَّه لو قد سمع منِّي ما أكلمه به من الكلام الصحيح الذي لا خداع فيه أن يفهم عنِّي ويطمعَ في معرفتي، ويسلَسَ بذلك لصلحي، ولعلَّه يكون له ولي في ذلك نجاة، ثم دنا منه فقال: كيف حالك؟ فأجابه السنَّوْر: كالذي تهوى، في الضنك والضيق! قال الجرذ: لا تكذيب لك، لعمري لقد كان يسرُّني ما ساءك، وأرى ما ضيق عليك لي سعةً، ولكنِّي اليوم قد شاركتك في البلاء، فلا أرجو لنفسي خلاصًا إلَّا بالأمر الذي أرجو لك به الخلاص، فذلك الذي عطفني عليك، وستعرف مقالتي أنْ ليس فيها ريبٌ ولا مخادعةٌ، فإنه قد ترى مكان (ابن عِرس) كامنًا لي، و(البومة) تُريد اختطافي، وكلاهما لي ولك عدوٌّ، وهما يخافانك ويهابانك، فإن أنت جعلت لي أن تُؤمِّنني إن أنا دنوت منك فأنجو بذلك منهما؛ فإني مُخلِّصك مما أنت فيه، فاطمئِنَّ إلى ما ذكرتُ، وثق به منِّي، فإنه ليس أحدٌ أبعدَ منَ الخير من اثنين منزلتُهما واحدة وصفتُهما مختلفة: أحدهما من لا يثق بأحد، والآخر من لا يثق به أحد، ولك عندي الوفاء بما جعلتُ لك من نفسي، فاقبَل منِّي واسترسِل إليَّ وعجِّل ذلك ولا تؤخِّر، فإنَّ العاقل لا يؤخِّر عمله، ولتَطِبْ نفسك ببقائي كما طابت نفسي ببقائك؛ فإنَّ كل واحدٍ منَّا ينجو بصاحبه، كالسفينة والركَّاب في البحر، فبالسفينة يخرج الركَّاب من البحر وبالركَّاب تخرج السفينة.

فلمَّا سمع السنَّوْر مقالة الجرذ سُرَّ بها، وعرف أنه صادق، فقال للجرذ: أرى قولك شبيهًا بالحق والصدق، فأنا راغبٌ في هذا الصلح الذي أرجو لنفسي ولك فيه الخلاص، ثم أشكر لك ذلك ما بقيت وأجازيك به أحسن الجزاء. قال الجرذ: فإذا دنوتُ منك فليَرَ ابن عِرس والبومة ما يعرفان به صلحنا فينصرفان آيسينِ، وأُقبِل أنا على قرضِ الحبال؛ فلمَّا دنا الجرذ من السنَّوْر أخذه فالتزمه، فلمَّا رأت البومة وابنُ عِرس ذلك انصرفا خائبينِ، وأخذ الجرذ في قطع حبائل السنَّوْر فاستبطأه السنَّوْر وقال للجرذ: ما أراك جادٍّا في قطع رباطي، فإن كنت – حين ظفرت بحاجتك – تبدَّلت عما كنتَ عليه وتوانيت في حاجتي فليس هذا للكريم بخلق؛ أن يتوانى في حاجة صاحبه إذا استمكن من حاجة نفسه، وقد كان لك في مودَّتي من عاجل المنفعةِ والاستنقاذِ من الهلكة ما قد رأيتَ، وأنت حقيقٌ أن تكافئني، ولا تذكرَ عداوةَ ما بيني وبينك؛ فإنَّ ما حدث بيننا حقيقٌ أن يُنسِيك ذلك، وإنَّ الكريم لا يكون إلَّا شكورًا غير حقود، تُنسيه الخَلَّةُ الواحدة من الإحسان الخِلال الكثيرة من الإساءة، وأعجَل العقوبة عقوبةُ الغدر واليمين الكاذبة، ومَن إذا تُضُرِّع إليه وسُئل العفو لم يعفُ ولم يصفَح.