أبواب اللغة العربية

الجُرذُ والسنّور (الفأر والقط) … الجزء الثاني

الجُرذُ والسنّور (الفأر والقط) … الجزء الثاني

من كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفّع

قال الجرذ: الأصدقاء صديقان: طائع ومضطرٌّ، وكلاهما يلتمس المنافع ويحترس من المضارِّ، فأمَّا الطائع منهما فيُستَرسَل إليه ويوثَق به على كل حال، وأمَّا المضطر فإنَّ له حالاتٍ يُسترسَل إليه فيها، وحالاتٍ يُتَّقى فيها، فلا يزال العاقل يَرتهن منه بعض حاجته ببعض ما يُتقَى وما يُخاف، وليس عامَّة التواصل والتحاب بين الناس إلَّا التماس عاجلِ النفع، وأنا وافٍ لك بما جعلت على نفسي، ومحترسٌ من أن يصيبني منك مثلُ الذي ألجأني إلى صلحك؛ فإنَّ لكل عملٍ حينًا، وإن لم يكن في حينه فلا عاقبةَ له، وأنا قاطعٌ حبائلك لوقتها، غيرَ أنِّي تارك عُقدةً واحدةً أرتهنك بها، فلا أقطعها إلَّا في الساعة التي أعرف أنك عنِّي فيها في شُغُل، ففعل ذلك، وباتا يتحادثان حتى إذا أصبحا إذا هما بالصيَّاد قد أقبل من بعيد. فقال الجرذ: الآن جاء موضع الجِدِّ في قطع بقية حبائلك، فقطع حبائله، ولم يدنُ منهما الصياد حتى فرغ الجرذ، على سُوءِ ظنٍّ من السنَّوْر ودَهَشٍ، فلمَّا أفلت عدا إلى الشجرة فصعدها، ودخل الجرذ الجحر، فأخذ الصيَّاد حبائله مقطَّعة وانصرف خائبًا.

وخرج الجرذُ بعد ذلك من جُحرِه فرأى السنَّوْر من بعيد، فكره أن يدنوَ منه، وناداه السنَّوْر: أيها الصديق، ذا البلاء الحسن! ما يمنعك من الدنوِّ منِّي لأجزيك بأحسن ما أبليتني؟ هلمَّ إليَّ ولا تقطع إخائي، فإنه مَن اتخذ صديقًا ثم أضاع ودَّ إخائه حُرِم ثمرة الإخاء، وأيِس من منفعة الإخوان، وإنَّ يدَك عندي اليدُ التي لا تُنسى، فأنت حقيقٌ أن تلتمسَ مكافأة ذلك منِّي ومن إخواني وأصدقائي، فلا تخافنَّ منِّي شيئًا، واعلم أنَّ ما قِبَلي لك مبذول، ثم حلف له واجتهد على تصديق ما قال، فأجابه الجرذ أنه رُبَّ عداوةٍ باطنةٍ ظاهرُها صداقة، وهي أشدُّ ضرٍّا من العداوة الظاهرة، ومَن لم يحترس منها وقع موقع مَن يركب ناب الفيل المغتلِم ثم يغلبه النعاس، وإنما سُمِّي الصديقُ صديقًا لما يُرجى من نفعه، وسُمِّي العدوُّ عدوٍّا لما يخاف من ضرره؛ فإنَّ العاقل إذا رجا نَفْع العدوِّ أظهر له الصداقة، وإذا خاف ضَرَّ الصديق أظهر له العداوة، أوَ لَا ترى أولاد البهائم تتبَع أمهاتها رجاء ألبانها، فإذا انقطع ذلك انصرفت عنها؟ وكما أنَّ السحاب يلتئم ساعة ويتقطَّع أخرى، ويَهمِي ساعة ويُمسِك أخرى، كذلك العاقل يتلوَّن مع متلوِّنات الأمور عن اختلاف أحوال الأصحاب، فينبسط مرة وينقبض أخرى، ويسترسل مرة ويحترس أخرى، وربما قَطَعَ المرءُ عن صديقه بعض ما كان يصله بفضله فلم يخَفْ شرَّه؛ لأنَّ أصل أمره لم يكن عداوة، فأمَّا من كان أصلُ أمره عداوة، وتحدث صداقته لحاجةٍ حملته على ذلك، فإنه إذا ذهب الأمر الذي أحدث ذلك صار إلى أصل أمره، كالماء الذي يسخن بالنار، فإذا رُفِع عنها عاد باردًا، فلا عدوَّ أضرُّ لي منك، وقد كان اضطرني وإياك أمرٌ أخرجنا إلى ما صرنا إليه من المصالحة، وقد ذهب الأمر الذي احتجتَ إليَّ واحتجتُ إليك فيه، وأخافُ أن يكون مع ذهابه عَود العداوة بيني وبينك، ولا خيرَ للضعيفِ في قربِ العدوِّ القويِّ، ولا للذليلِ في قربِ العدوِّ العزيزِ، ولا أعلمُ لك فيَّ حاجة إلَّا أن تريد أكلي، ولا أرى الثقة بك، فإنِّي قد علمت أنَّ الضعيف هو أقرب إلى أن يَسلم من العدوِّ القويِّ إذا هو احترس منه ولم يغترر به، من القويِّ إذا اغتر بالضعيف واسترسل إليه، والعاقل يصانع عدوَّه إذا اضطُرَّ إليه فيظهرُ له وُدَّه ويريه من نفسه الاسترسال إليه إذا لم يجد من ذلك بدّاً، ويعجِّل الانصراف عنه إذا وجد إلى ذلك سبيلًا.

واعلم أن صريع الاسترسال لا يكاد يستقيل عثرته، والعاقل يفي لمن صالح بما جعل له، ويثق بذلك من نفسه، ولا يثق لها بمثل ذلك من أحد، ولا يؤثر على البعد من عدوِّه، ما استطاع، شيئًا، والبعد لك من الصيَّاد والبعد لي منك مِن أحزم الرأي، وأنا أوَدُّك من بعيد، ولا عليك أن تَجزيني بمثل ذلك إن رأيت، وإلَّا فلا سبيل إلى اجتماعنا أبدًا، والسلام.