علوم اللغة العربية

من فنون النثر

إنما الأعمال بالنيات .. فصاحة وبيان

نشأ النبي ﷺ في قوم فصحاء، صنعتهم الكلام وبيانه وبلاغته، فكان ﷺ عربيا فصيحا، ثم كان الوحي المؤيّد بالقرآن الكريم الذي تحدّاهم في عين ما برعوا فيه وهو لغتهم وبيانهم، فكانت الفصاحة النبوية في أعلى درجات الفصاحة لاتصالها بالوحي الإلهي.

يقول الرافعي عن فصاحة النبي ﷺ في كتابه (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية): أما فصاحته صلى الله عليه وسلم فهي من السمت الذي لا يؤخذ فيه على حقه، ولا يتعلق بأسبابه متعلّق، فإن العرب وإن هذّبوا الكلام وحذقوه وبالغوا في إحكامه وتجويده، إلا أن ذلك قد كان منهم عن نظرٍ متقدّم، ورَويّة مقصودة، وكان عن تكلّف يستعان له بأسباب الإجادة التي تسمو إليها الفطرة اللغوية فيهم، فيشبه أن يكون القول مصنوعًا مقدّرًا على أنهم مع ذلك لا يسلمون من عيوب الاستكراه والزلل والاضطراب، ثم هم في باب المعاني ليس لهم إلا حكمة التجربة، وإلا فضل ما يأخذ بعضهم عن بعض، قل ذلك أو كثر، والمعاني هي التي تعمر الكلام وتستتبع ألفاظه، وبحسبها يكون ماؤه ورونقه، وعلى مقدارها وعلى وجه تأديتها يكون مقدار الرأي فيه ووجه القطع به.

بَيْدَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصحَ العرب، على أنه لا يتكلَّفُ القولَ، ولا يقصد إلى تزيينه، ولا يبغي إليه وسيلة من وسائل الصِّنعة، ولا يجاوز به مقدارَ الإبلاغ في المعنى الذي يريده، ثم لا يعرض له في ذلك سقط ولا استكراه؛ ولا تستزله الفُجاءة وما بيده من أغراض الكلام عن الأسلوب الرائع، وعن النمط الغريب والطريقة المحكمة، بحيث لا يجد الناظر إلى كلامه طريقًا يتصفح منه صاعدًا أو منحدرًا؛ ثم أنت لا تعرف له إلا المعاني التي هي إلهام النبوة، ونتاج الحكمة، وغاية العقل، وما إلى ذلك مما يخرج به الكلام وليس فوقه مقدار إنسانيّ من البلاغة والتسديد وبراعة القصد والمجيء في كل ذلك من وراء الغاية.

وإن كان كلامه صلى الله عليه وسلم لكما قال الجاحظ: هو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجلّ عن الصّنعة، ونُزِّه عن التكلف. استعمل المبسوط في موضع البسط؛ والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي؛ فلم ينطق عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفّ بالعصمة، وشُدّ بالتأييد، ويُسّر بالتوفيق، وهذا الكلام الذي ألقى الله المحبة عليه وغشاه بالقبول، وجمع بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام هو مع استغنائه عن إعادته وقلة حاجة السامع إلى مُعاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بَارَت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخِلابة، ولا يستعمل المؤاربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطئ ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر؛ ثم لم يسمع الناسُ بكلام قط أعم نفعًا ولا أصدق لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه من كلامه ﷺ.

ويؤكد الرافعي على دور الوحي في فصاحة الرسول ﷺ فيقول: ولا نعلم أن هذه الفصاحة قد كانت له صلى الله عليه وسلم إلا توفيقًا من الله وتوقيفًا؛ إذ ابتعثه للعرب وهم قوم يقادون من ألسنتهم، ولهم المقامات المشهورة في البيان والفصاحة؛ ثم هم مختلفون في ذلك على تفاوت ما بين طبقاتهم في اللغات، فمنهم الفصيح والأفصح، ومنهم الجافي والمضطرب، ومنهم ذو اللوثة والخالص في منطقه، إلى ما كان من اشتراك اللغات وانفرادها بيهم، وتخصص بعض القبائل بأوضاع وصيغ مقصورة عليهم، لا يساهمهم فيها غيرهم من العرب، إلا من خالطهم أو دنا منهم دنو المأخذ.

فكان صلى الله عليه وسلم يعلم كل ذلك على حقه؛ كأنما تُكاشفُه أوضاع اللغة بأسرارها، وتبادره بحقائقها؛ فيخاطب كل قوم بلحنهم وعلى مذهبهم، ثم لا يكون إلا أفصحهم خطابًا، وأسدّهم لفظًا، وأبينهم عبارة، ولم يعرف ذلك لغيره من العرب، ولو عرف لقد كانوا نقلوه وتحدثوا به واستفاض فيهم.

ومثل هذا لا يكون لرجل من العرب إلا عن تعليم أو تلقين أو رواية عن أحياء العرب حيا بعد حي وقبيلًا بعد قبيل، حتى يفلّي لغاتهم، ويتتبع مناطقهم، مستفرغًا في ذلك متوفرًا عليه، وقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يتهيأ له شيء مما وصفنا، ولا تهيأ لأحد من سائر قومه على ذلك الوجه علمًا ليس بالظن، ويقينًا لا مساغ للشبهة فيه؛ إذ ترادفت به طرق الأخبار المتواترة، وكان مصداقه من أحوال العرب أنفسهم؛ فما عرف أن أحدًا منهم تقصص اللغات وحفظ ما بينها من فروق الأوضاع واختلاف الصيغ وأنواع الأبنية، واستقصى لذلك يستظهر به عليهم أو ينتحله فيهم؛ بل كانت هذه الأسباب مقطوعة منهم، لا تجد في الطبيعة ما يمتد بها، أو ينميها، أو يجعل لها عندهم شأنًا، أو يبغيها حاجة من الحاجات الباعثة عليها؛ فليس إلا أن يكون ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك قد كان توفيقًا وإلهامًا من الله، أو ما هذه سبيله، مما لا ننفذ في أسبابه، ولا نقضي فيه بالظن فقد علمه الله من أشياء كثيرة ما لم يكن يعلم؛ حتى لا يعيا بقوم إن وردوا عليه، ولا يحصر إن سألوه، ولا يكون في كل قبيل إلا منهم؛ لتكون الحجة به أظهر، والبرهان على رسالته أوضح، وليعلم أن ذلك له خاصة من دون العرب، فهو يفي بهم في هذه الخصلة البينة، كما يفي بهم في خصال أخرى كثيرة.