من كتاب الصاحبي في فقه اللغة العربية لابن فارس ت: 395هـ.
قال إسماعيل بن أبي عُبَيد الله: أجمَعَ علماؤنا بكلام العرب، والرُّواةُ لأشعارهم، والعلماءُ بلُغاتهم وأيامهم ومَحالّهم أن قُرَيشاً أفصحُ العرب ألْسنةً وأصْفاهم لغةً. وذلك أن الله جل ثناؤه اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبيَّ الرحمة محمداً صلى الله عليه وسلم فجعل قُريشاً قُطَّان (سكّان) حَرَمِه، وجيران بيته الحرام، ووُلاتَهُ. فكانت وُفود العرب من حُجّاجِها وغيرهم يَفِدون إِلَى مكة للحج، ويتحاكمون إِلَى قريش فِي أُمورهم. وَكَانَتْ قريش تعلمهم مَناسكَهم وتحكُمُ بَيْنَهم.
ولم تزلِ العرب تَعرِفُ لقريش فضلَها عليهم وتسمّيها أهل الله لأنهم الصَّريح من ولد إسماعيل عَلَيْهِ السلام، لَمْ تَشُبْهم شائبة، وَلَمْ تنقُلْهم عن مناسبهم ناقِلَة، فضيلةً من الله جلّ ثناؤه لهم وتشريفاً. إذ جعلهم رَهط نبيّه الأدنَيْنَ، وعِتْرته الصالحين.
وَكَانَتْ قريش، مع فصاحتها وحُسنِ لغاتها ورِقَّة ألسنتها، إِذَا أتتهُم الوُفود من العرب تخيّروا من كلامهم وأشعارهم أحسنَ لغاتهم وأصفى كلامهم. فاجتمع مَا تخيّروا من تِلْكَ اللغات إِلَى نَحائرهم وسَلائقهم الَّتِي طُبعوا عَلَيْهَا. فصاروا بذلك أفصح العرب.
ألا ترى أنك لا تجد فِي كلامهم عَنْعَنَة تَميم, ولا عَجْرفيّة قَيْس, ولا كَشْكَشَة أسَد, ولا كَسْكَسة رَبيعةَ، ولا الكَسْر الَّذِي تسمَعه من أسدَ وقَيْس مثل: تِعلمون ونِعلم ومثل شِعير وبِعير.
أما العَنْعَنة الَّتِي تُذكَر عن تَميم فقلبهم الهمزة فِي بعض كلامهم عيناً. يقولون: سمعتُ عَنَّ فلاناً قال كذا، يريدون (أَنَّ).
ورُوي فِي حديث قَيْلَة: تَحسب عَنِّي نائمةٌ. قال أبو عُبيد: أرادت تَحْسب أنّي، وهذه لُغة تميم. قال ذو الرمّة:
أَعَن تَرَسَّمتَ مِن خَرقاءَ مَنزِلَةً … ماءُ الصَبابَةِ مِن عَينَيكَ مَسجومُ
أراد (أن), فجعل مكان الهمزة عيناً.
(ومعنى البيت: أنّه يلوم على نفسها أنها بمجرّد أن ترسّمت، أي أمّلت من (خرقاء) وصلا وودّا، فصبّت دموع الصبابة والعشق بغزارة).
وأما الكَشْكَشة الَّتِي فِي أسَد فقال قوم: إنهم يبدلون الكاف شيناً فيقولون: عَلَيْشَ بمعني (عَلَيْكَ). ويُنشدون:
فَعَيْناشِ عيناها وجيدشِ جيدُها … ولَوْنُشِ إِلاَّ أنها غيرُ عاطلِ
وقال آخرون: يَصِلون بالكاف شيناً، فيقولون: عَلَيكِش.
وكذلك الكسكَسة الَّتِي فِي رَبيعة إنما هي أن يَصِلوا بالكاف سيناً، فيقولون: عَلَيْكِسْ.
وحدثني عليُّ بن أحمد الصبَّاحيُّ، قال سمعت ابن دُرَيْد يقول: حروفٌ لا تتكلم بها العرب إِلاَّ ضرورة، فإذا اضطُرُّوا إِلَيْهَا حوَّلوها عند التكلم بها إِلَى أقرب الحروف من مخارجها.
فمن تِلْكَ الحروفِ الحرفُ الَّذِي بَيْنَ الباء والفاء. مثل بُور إِذَا اضطُروا. فقالوا: فُور.
ومثلُ الحرف الَّذِي بَيْنَ القاف والكاف والجيم، وهي لغة سائرة فِي اليمن، مثل: جَمَل إِذَا اضطرُّوا قالوا: كَمَل.
قال: والحرفُ الَّذِي بَيْنَ الشين والجيم والياء: فِي المذكر (غُلامِجْ) وَفِي المؤنث (غُلامِش).
فأما بنو تميم فإنهم يُلحقون القاف باللَّهاة حَتَّى تَغْلظ جداً فيقولون: (القوم) فيكون بَيْنَ الكاف والقاف، وهذه لغةٌ فيهم. قال الشاعر:
ولا أكُولُ لِكدرِ الكَوم قَدْ نضجت … ولا أكولُ لبابِ الدَّار مَكْفولُ
وكذلك الياء تجعل جيماً فِي النَّسب. يقولون: (غُلامِجْ) أي (غلامي).
وكذلك الياء المشدَّدة تحوَّل جيماً فِي النَّسب. يقولون: (بَصرِجّ) و(كُوفِجّ) قال الرَّاجِز:
خالي عويفٌ وأبو عَلِجّ … المُطْعِمَانِ اللحمَ بالعَشِجِّ
وبالغَداةَ فِلَقَ الْبرْنِجِّ
وكذلك مَا أشبهه من الحروف المرغوب عنها. كالكاف الَّتِي تُحوَّل شيناً.
قلنا: أما الَّذِي ذكره ابن دُرَيد فِي (بور) و(فور) فصحيح. وذلك أن بور لَيْسَ من كلام العرب، فلذلك يحتاج العربيّ عند تعريبه إياه أن يُصيّره فاءً. وأما سائر مَا ذكره فليس من باب الضرورة فِي شيء. وأيُّ ضرورة بالقائل إِلَى أن يقلب الكاف شيناً، وهي ليست فِي سجع ولا فاصلة? ولكن هَذِهِ لغات للقوم.
وأما من زعم أن ولدَ إسماعيل عَلَيْهِ السلام يُعيّرون وَلدَ قَحْطان أنهم ليسوا عرباً، ويحتجُّون عليهم بأنَّ لسانَهم الحِمْيريَّة وأنهم يُسَمُّون اللِّحية بغير اسمها مع قول الله جلّ ثناؤه فِي قصة من قال: (لا تأخذ بلِحْيتي ولا بِرَأْسي) وأنهم يُسمُّون الذّيب (القُلوْبَ) مع قوله: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) ويسمون الأصابع (الشنَّاتر) وَقَدْ قال الله جلّ ثناؤه: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ)، وأنهم يسمّون الصَّديق (الخِلْمَ) والله جل ثناؤه يقول: (أَوْ صَدِيقِكُمْ) وَمَا أشبه هَذَا. فليس اختلافُ اللُّغات قادِحاً فِي الأنساب.
ونحن، وإن كنا نعلم أن القرآن نزل بأفصح اللغات، فلسنا نُنكر أن يكون لكلّ قوم لغة. مع أن قحطان تذكر أنهم العرَب العارِبة، وأن مَن سواهم العرَب المَتَعَرِّبة، وأن إسماعيل عَلَيْهِ السلام بلسانهم نَطق، ومن لغتِهم أخَذَ، وإنَّما كَانَتْ لغةُ أبيه صلى الله عليه وسلم العِبرية وَلَيْسَ ذا موضوعَ مفاخَرة فنَستَقصي.